التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{كٓهيعٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة مريم

في السورة تذكير بمعجزة الله تعالى في ولادة يحيي استطرادا إلى ذكر معجزة ولادة عيسى عليهما السلام ، وتسفيه القول ببنوته لله . واستطرادا إلى ذكر بعض الأنبياء والتنويه بهم والدعوة إلى التأسي بهم . وفيها فصول احتوت مواقف وأقوالا للكفار وحملة عليهم وعلى عقائدهم وإنذارا لهم وبيانا لمصيرهم ومصير المؤمنين المتقين بالمقابلة .

ويبدو أن السورة قسمان : الأول إلى آخر سلسلة الأنبياء . والثاني من هنا إلى آخر السورة . وكلا القسمين متوازن ومقفى إجمالا مع اختلاف في القافية . وبينهما كذلك شيء من الترابط وهذا من جهة ، ونظم فصول السورة عامة من جهة أخرى يدلان على أنها نزلت متلاحقة حتى تمّت دون فصل . وقد روي أن الآيتين [ 58 و71 ] مدنيتان . واتصالهما بالسياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية . وفي السورة آيتان تبدوان معترضتين وتحتويان صورة من صور التنزيل القرآني وهما [ 64 ، 65 ] .

{ كهيعص1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ولَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِن ورَائِي وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ولِيًّا 5 يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6 يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا 7قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا 8 قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُو عَلَيَّ هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا 9 قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا 10 فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًّا 11 يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوةٍ وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا 12 وحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وزَكَاةً وكَانَ تَقِيًّا 13 وبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا 14 وسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا 15 } [ 1 15 ] .

بدئت السورة بأحرف خمسة متقطعة . وتعددت الأقوال فيها منها أنها رموز لأسماء الله تعالى ، وقسم رباني بالأسماء التي ترمز إليها ، ومنها أنها للاسترعاء والتنبيه . وهذا ما نرجحه . وقد يكون تعدد الحروف بقصد التنبيه إلى خطورة الموضوع . ومطلع السورة من المطالع القليلة التي بدأت بحروف متقطعة ولم يعقبها ذكر القرآن والكتاب .

والسلسلة التي أعقبت الحروف الخمسة احتوت قصة ولادة يحيي بن زكريا عليهما السلام والمعجزة الربانية في هذه الولادة . وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر حينما يستعان بمعاني المفردات والجمل التي قدمناها . وقد تضمنت تنويها بزكريا وبيحيى عليهما السلام وما كان لهما عند الله تعالى من شأن وما نالاه من عنايته وتكريمه ، كما تضمنت التنويه بالمعجزة الربانية في ولادة يحيي من أب هرم وأم عاقر .

تعليق على قصة ولادة يحيي عليه السلام

وبما أن هذه القصة أعقبت بقصة ولادة المسيح عليه السلام الخارقة ، كما أن روح الآيات التالية تلهم أن ولادة المسيح هي المقصودة بالذات لتفنيد مزاعم النصارى بأبوّة الله عز وجل للمسيح ، وتقرير كون ولادته ليست إلاّ معجزة ربانية ؛ فإنه يصح أن يقال : إن ذكر قصة ولادة يحيى قبل قصة ولادة المسيح عليهما السلام هو من قبيل التمهيد والتدليل على أن ولادة المسيح قد سبقت بمعجزة ربانية من نوعها تقريبا ، فلا يصح أن ينبني عليها ما قامت عليه العقيدة النصرانية بأبوّة الله للمسيح أو ببنوّة المسيح لله بالمعنى الحرفي للأبوة أو البنوّة .

والإعجاز الرباني في ولادة يحيى كان معروفا ومسلّما به من قبل النصارى واليهود . وقد ورد بتفصيل مطابق لما ورد في السلسلة في إنجيل لوقا ( الإصحاح الأول ) كما ورد في الإصحاح نفسه : أن ملاك الله ذكّر به مريم حينما بشرها بحلول روح القدس عليها والحبل بعيسى عليه السلام لأنها قالت له : كيف أحبل وأنا لا أعرف رجلا ؟ فقال لها : إن إليصابات نسيبتك وزوجة زكريا حبلت أيضا بابن في شيخوختها مع أنها كانت عاقرا وأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله .

وهكذا جاء التمهيد القرآني محكما ومفحما للنصارى الذين هم موضوع الحديث في ولادة عيسى عليه السلام الوارد في الآيات التالية :

ولقد ذكرت ولادة يحيى الإعجازية مرتين أخريين في القرآن . مرة في سورة الأنبياء المكية الآيات [ 88 91 ] . ومرة في سورة آل عمران المدنية الآيات [ 32 51 ] . وكان خبر الحبل بعيسى وولادته الإعجازية يذكر بعد كل من المرتين مثل ما هو في هذه السورة .