سورة مريم مكية نزلت بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وقبل الإسراء وكانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة ، وكان الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة ، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة وشهرين .
أي : أن سورة مريم نزلت بعد السنة السابعة من البعثة وقبل السنة الحادية عشرة .
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ؛ لذكر قصة مريم فيها . وعدد آياتها ( 98 ) آية ، وعدد كلماتها ( 1192 ) كلمة .
الأهداف الأساسية لسورة مريم هي : تنزيه الله عن الولد والشريك ، وإثبات وحدانية الله ، والإلمام بقضية البعث القائمة على التوحيد .
هذه هي الأهداف الأساسية للسورة ، كالشأن في السورة المكية غالبا .
والقصص هو مادة هذه السورة ؛ فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى ، فقصة مريم ومولد عيسى ، فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه . . ثم تعقبها بإشارات إلى النبيين : إسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وهارون ، وإسماعيل ، وإدريس ، وآدم ، ونوح . ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة ، ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث ، ونفي الولد والشريك وبيان : منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين .
ومن ثم بعض مشاهد القيامة وبعض الجدل مع المنكرين للبعث ، واستنكار للشرك ودعوى الولد ، وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل .
وللسورة كلها جو خاص يضللها ويشيع فيها ويتمشى في موضوعاتها . . إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية . . الانفعالات في النفس البشرية ، وفي ( نفس ) الكون من حولها . فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات ، تشارك في رسم الجو العام للسورة حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل ؛ حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا ؛ { أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتّخذ ولدا } . ( مريم : 92 ، 91 ) .
أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها والقصص الرئيس فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة . وبخاصة في قصة مريم ، وميلاد عيسىi .
القصص في سورة مريم امتداد للقصص في سورة الكهف . فهناك ظهرت قدرة الله البالغة في حفظ أصحاب الكهف وإحياءهم بعد موتهم ، وفي إعطاء الرحمة والعلم للخضر عليه السلام ، وفي منح ذي القرنين أسباب الملك والسلطان والسيادة ، وهنا تظهر رحمة الله وفضله على زكريا ؛ إذ يمنحه يحيى على كبر وشيخوخة ، وتظهر قدرة الله البالغة في خلق عيسى من أم دون أب ، ثم نعمته السابغة على الأنبياء والرسل ورعاية الله لهم حتى يئدوا رسالاتهم ، ويظهر ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه ، وقصة موسى مع قومه ، وقصة إسماعيل الصادق الوعد ، وقصة إدريس الصديق النبي .
ذكرت حلقة من هذه القصة في سورة آل عمران ، ولكنها في سورة مريم تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص .
إن السمة الغالبة هنا هي سمة الرحمة والرضا والاتصال فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا وهو يناجي ربه نجاء خفيا .
فتصور أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذرية والولد ودعاءه لله خفية بعيدا عن زوجته وعن الناس .
ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وحفظ ورضا . . فالرب ينادي عبده من الملإ الأعلى { يا زكريا } . ويجعل له البشرى : { إنا نبشّرك بغلام } . ( مريم : 7 } .
ويعمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره : { اسمه يحيى } . وهو اسم فذ غير مسبوق : { لم نجعل له من قبل سميا } . ( مريم : 7 ) .
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء فإذا هو يواجه الواقع . . إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ، وهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته عاقر لم تلد في فتوته وصباه : فكيف يا ترى سيكون له غلام ؟ !
{ قال ربي أنّا يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } . ( مريم : 8 ) .
ثم يأتيه الجواب عن سؤاله . بأن هذا أمر هين يسير أمام قدرة الله فهو سبحانه الخالق الفعال لما يريد . وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد . وجعل الشيخ الفاني لا ينسل . وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم ، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل وهو على كل شيء قدير .
وتمت ولادة يحيى وكبر وترعرع وأحكم الله عقله وهيأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا وإنما كان رسالة الهدى ودعوة الإيمان وناداه الله : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا } . ( مريم : 12 ) .
والكتاب هو التوراة ، كتاب بني إسرائيل من بعد موسى وعليه يقوم أنبياؤهم يعملون به ويحكمون . وقد نودي : يحيى ؛ ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم . لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة .
وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه ووهبه الحنان والعطف ؛ لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله ، عابدا له ، مجاهدا في سبيله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يخشى في الله لومة لائم .
انتقلت السورة من قصة ميلاد يحيى إلى قصة ميلاد عيسى وقد تدرج السياق من القصة الأولى ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولادة العذراء من غير بعل وهي أعجب وأغرب .
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق إنسان أصلا وإنشاءه على هذه الصورة فإن حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما إذا شهدته البشرية في تاريخها كله ويكون حادثا فذا لا نظير له من قبله ولا من بعده .
والبشرية لم تشهد خلق نفسها . وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم . وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث ، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض ؛ ليشهدها البشر ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال . إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان !
لقد جرت سنة الله في امتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل بلا استثناء .
حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث ، جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة ونسوا الحادث الأول . حادث وجود الإنسان ؛ لأنه خارج عن القياس . فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ليذكرهم بحرية القدرة و طلاقة الإرادة . وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ولم يتكرر حادث عيسى ؛ لأن الأصل أن تجري السنة التي وضعها الله وأن ينفذ الناموس الذي اختاره . وهذه الحادثة الواحدة تكفي ؛ لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة وعدم احتباسها داخل حدود النواميس : { ولنجعله آية للناس } . ( مريم : 21 ) .
ونظرا لغرابة الحديث وضخامته فقد عز على فريق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه . فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم عليه السلام صفات ألوهية . وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير ، وتعكس الحكمة من خلفه على هذا النحو العجيب- وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد ، تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد . والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة ويبرز دلالتها الحقيقية وينفي تلك الخرافات والأساطير .
وهب الله مريم التقوى واليقين ورزقها من فضله بغير حساب وفي يوم ما اعتكفت مريم كعادتها . وتوارت من أهلها واحتجبت عن أنظارهم . وبينما هي في خلوتها . مطمئنة إلى انفرادها . مطمئنة إلى انفرادها . إذ ظهر أمامها رجل سوى الخلقة فانتفضت انتفاضة العذراء المعذورة يفجؤها رجل في خلوتها ، فتلجأ إلى الله تستعيد به وتستنجد به وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل ، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي . ولكن الرجل السوي هدأ من روعها وأعاد إليها طمأنينتها وأخبرها : أنه ملاك أرسله الله إليها ؛ لحكمة إلهية وفضل رباني : { قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } . ( مريم : 19 ) .
وتدرك مريم شجاعة الأنثى المهددة في عرضها ؛ فتسأل في صراحة وحجة قائلة : { أنا يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } . ( مريم : 20 ) .
فهي لم تخالط رجلا في نكاح ولا في سفاح فأخبرها الملاك : أن هذا الحمل سيتم بقدرة الله وحده وهو أمر هين أمام هذه القدرة التي تقول للشيء : كن فيكون ، وقد أراد الله أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إدراكه .
{ قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا } . ( مريم : 21 ) .
ثم مضى الملاك واختفى . وتم الحمل بقدرة الله ، وجلست مريم حائرة تفكر في أمر نفسها وتخيلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل ، وفي حدة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب ، وجعلت تتمنى لو ضمها القبر . وفارقت هذا العالم قبل أن تصير أما من غير أن تتزوج فقالت : { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } . ( مريم : 22 ) .
لكنها ما لبثت أن سمعت صوت وليدها ؛ فبدد مخاوفها وكفكف دموعها . وناداها من تحتها : { ألاّ تحزني قد جعل ربك تحتك سريا } . ( مريم : 24 ) .
أي : جدولا يجري ماؤه في تلك البقعة الجرداء والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل . وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتتساقط عليك رطبا . فهذا طعام وذاك شراب والطعام الحلو مناسب للنفساء . والرطب والتمر من أجود طعام النفساء : { فكلي واشربي . هنيئا وقري عينا } . ( مريم : 26 ) ، واطمئني قلبا ؛ بما ترين من قدرة الله التي اخضر بها جذع النخلة اليابسة . وطيبي نفسا بما حباك الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة ؛ واطمأنت مريم إلى فضل الله وإلى أن الله لن يتركها وحدها وإلى أن حجتها معها . هذا الطفل الذي ينطق في المهد .
ورجعت مريم إلى قومها وعشيرتها تحمل وليدها على كتفها ، وسرعان ما شاع أمرها ، وعرف خبرها ، وجاء أقاربها : أنبوها بألسنة التقريع والتأنيب ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة ويذكرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها ؛ والتزمت مريم الصمت وأشارت إليهم : أن كلموا هذا الوليد إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر .
فقال القوم لها : { كيف نكلم من كان في المهد صبيا } . ( مريم : 29 ) .
كيف نكلم وليدا لم تكتمل أدوات نطقه ، ولم تتحرك شفته إلى ثدي أمه ؛ فانطلق الوليد يجيبهم في بيان وحجة وبرهان وقال : { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا . وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا . وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبّارا شقيا ، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } . ( مريم : 33 ، 30 ) .
وهكذا يعلن عيسى عليه السلام : عبوديته لله ؛ فليس هو ابنه كما تدعي فرقة ، وليس هو إلها كما تدعي فرقة ، وليس هو ثالث ثلاثة كما تدعي فرقة ، ويعلن : أن الله جعله نبيا لا ولدا ولا شريكا ، وأن الله أوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته .
تحس في كلمات هذه السورة السهولة واليسر ، والرضا واللطف ؛ فهي كلمات معبرة عن معانيها ، فمعاني السورة تدور حول فضل الله على زكريا ومريم وغيرهما من الأصفياء .
ويتمثل الرضا والسلاسة واليسر في معاني السورة ، كما يتمثل في ألفاظها وفواصلها وهي : رضيا ، سريا ، خفيا ، نجيا .
فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة على حرف الدال في الغالب : مدا ، ضدا ، إدا ، هدا ، أو زايا : عزا ، أزا .
ويتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية ؛ بتنوع الجو والموضوع في هذه السورة . فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا : { ذكر رحمة ربك عبده زكريا . إذ نادى ربه نداءا خفيا } . ( مريم : 3 ، 2 ) . . . إلخ وتليها قصة مريم وعيسى فتصير الفاصلة والقافية على النظام نفسه : { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا . فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } . ( مريم : 17 ، 16 ) . . . إلخ
إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ؛ لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته ، فيختلف نظام الفواصل والقوافي . تطول الفاصلة وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن ، وكأنما الآيات تعبر عن حكم بعد نهاية القصة ، مستمد منها ، ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا تعبيريا غير أسلوب الاستعراض وتقتضي إيقاعا قويا رصينا بدل إيقاع القصة الرضى المسترسل فيقول سبحانه : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } . ( مريم : 35 ، 34 ) .
حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرضية المديدة : { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا . إذ قال لأبيه يا أبتي لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عليك شيئا } . ( مريم : 42 ، 41 ) . . . إلخ .
حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ؛ تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية ؛ { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدّا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعملون من هو شرٌّ مكانا وأضعف جندا } . ( مريم : 75 ) . . . إلخ
وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال : { وقالوا اتخذ الرحمان ولدا . لقد جئتم شيئا إدّا . تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا } . ( مريم : 90 ، 88 ) . . . إلخ .
وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ويشارك في إبقاء الأسلوب الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة . وفق انتقالات السياق من فكرة إلى فكرة ، ومن معنى إلى معنى .
يمكننا أن نلمح ثلاث مجموعات رئيسة في سورة مريم :
المجموعة الأولى : تتضمن قصة زكريا ويحيى ، وقصة مريم وعيسى ، والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل ، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى .
المجموعة الثانية : تتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمة . ثم أشارت إلى قصص النبيين ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ، ومصير هؤلاء وهؤلاء ، وينتهي بإعلام الربوبية الواحدة التي تعبد بلا شريك : { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا } . ( مريم : 65 ) .
المجموعة الثالثة والأخيرة : تبدأ بالجدل حول قضية البعث وتستعرض بعض مشاهد القيمة ، وتعرض سورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك ، وتنتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن . . . } . ( مريم : 98 ) ، أي : أمة من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ، { هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا } . ( مريم : 98 ) .
وقد جاء في تفسير الطبري لهذه الآية الأخيرة من سورة مريم ما يأتي :
يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش { من قرن } . . . يعني : من جماعة من الناس ؛ إذ سلكوا في خلافي وركوب معاصي مسلكهم ، { هل تحس منهم من أحد } ، يقول : فهل تحس أنت منهم أحدا يا محمد فتراه وتعاينه ، { أو تسمع لهم ركزا } ، يقول : أو تسمع لهم صوتا بل بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدموه ، فكذلك قومك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاكii .
وبذلك تنتهي سورة مريم بعد تقرير قدرة الله الفائقة وحكمته البالغة في خلق يحيى وخلق عيسى ، وتقرير قدرته سبحانه على البعث والحشر والحساب والجزاء ، ومكافأة المؤمنين ومعاقبة المعتدين .
{ كهيعص ( 1 ) ذكر رحمة ربّك عبده زكريا ( 2 ) إذ نادى ربه نداء خفيّا ( 3 ) قال ربّي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك ربّ شقيا ( 4 ) وإني خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ( 5 ) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيا ( 6 ) يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّا ( 7 ) قال ربّي أنا يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من اكبر عتيّا ( 8 ) قال كذلك قال ربّك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( 9 ) قال ربّي اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويّا ( 10 ) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيّا ( 11 ) }
هي حروف افتتح الله تعالى بها بعض السور . قيل : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، وقيل : بل لها معان ، وتعددت الآراء في هذه المعاني :
( أ ) قيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ؛ فالكاف من اسمه ( كاف ) ، والهاء من ( هاد ) ، والياء من ( حكيم ) ، والعين من ( عالم ) ، والصاد من ( صادق ) .
( ب ) وقيل هي حروف للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مؤلف من حروف عربية تنطقون بها ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدل ذلك على أنه من عند الله تعالى ، وأصحاب هذا الرأي يذكرون : أن الحروف المقطعة في فواتح السور ، مجموعها 14 حرفا ، بينما حروف اللغة العربية 28 حرفا ، فكأن القرآن أخذ نصف الحروف في فواتحه ، وترك للناس النصف الباقي ؛ ليصنعوا منه قرآنا إن استطاعوا .
( ج ) وذهب آخرون إلى أن هذه الأحرف للتنبيه مثل أدوات الاستفتاح ، أو الجرس الذي يضرب فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .