قوله تعالى : { قال } الله تعالى لموسى وهارون ، { قد أجيبت دعوتكما } ، إنما نسب إليهما والدعاء كان من موسى لأنه روي أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، والتأمين دعاء . وفي بعض القصص : كان بين دعاء موسى وإجابته أربعون سنة . { فاستقيما } ، على الرسالة والدعوة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب { ولا تتبعان } ، نهي بالنون الثقيلة ، ومحله جزم ، يقال في الواحد لا تتبعن بفتح النون لالتقاء الساكنين ، وبكسر النون في التثنية لهذه العلة . وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تثقل وتخفف ، { سبيل الذين لا يعلمون } ، يعني : ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي ، فإن وعدي لا خلف فيه ، ووعيدي نازل بفرعون وقومه .
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } .
أى : قال الله - تعالى - لموسى هارون - عليهما السلام - : أبشرا فقد أجبت دعوتكما في شأن فرعون وملئه { فاستقيما } على أمرى ، وامضيا في دعوتكما الناس إلى الحق ، واثبتا على ما أنتما عليه من الإِيمان بى والطاعة لأمرى .
{ وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } ما جرت به سنتى في خلقى ، ولا يدركون طريق الخير من طريق البشر .
وكان الجواب من الله - تعالى - لموسى وهارون ، مع أن الداعى موسى فقط كما صرحت الآيات السابقة ، لأن هارون كان يؤمن على دعاء أخيه موسى والتأمين لون من الدعاء .
هذا ، ومن الحكم والعظات التي نأخذها من هاتين الآيتين الكريمتين : أن من علامات الإِيمان الصادق . أن يكون الإِنسان غيورا على دين الله ، ومن منظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من بين أيدى المصرين على جحودهم وفسوقهم وبطرهم لأن وجود النعم بين أيديهم كثيرا ما يكون سببا في إيذاء المؤمنين ، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم .
وأن الداعى متى توجه إلى الله - تعالى - بقلب سليم ، ولسان صادق ، كان دعاؤه مرجو القبول عنده - سبحانه - .
{ قال قد أجيبت دعوتكما } يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن . { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته . روي : أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة . { ولا تتّبعان سبيل الذين لا يعلمون } طريق الجلهة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى ، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان ولا تتبعان بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ، { ولا تتبعان } من تبع { ولا تتبعان } أيضا .
وقوله { فاستقيما } أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله ، وأمر بالاستقامة وهما على الإدامة والتمادي ، وقرأ نافع والناس «تتّبعانّ » بشد التاء والنون على النهي ، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان «تتبعانّ » بتخفيف التاء وشد النون ، وقرأ ابن ذكوان أيضاً : «تتّبعانِ » بشد التاء وتخفيف النون وكسرها ، وقرأت فرقة «تَتبعانْ » بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبراً معناه الأمر ، أي لا ينبغي أن تتبعا ، قال أبو علي : إن شئت جعلته حالاً من استقيما كأنه قال غير متبعين . قال القاضي أبو محمد : والعطف يمانع في هذا فتأمله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} إلى الله، فصار الداعي والمؤمن شريكين، {ولا تتبعان سبيل}، يعني طريق {الذين لا يعلمون} بأن الله وحده لا شريك له، يعني أهل مصر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جلّ ثناؤه: قَالَ الله لهما "قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما "في فرعون وملئه وأموالهم.
فإن قائل قائل: وكيف نسبت الإجابة إلى اثنين والدعاء إنما كان من واحد؟ قيل: إن الداعي وإن كان واحدا فإن الثاني كان مؤمنا وهو هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمّن داعٍ...
وأما قوله: "فاسْتَقِيما" فإنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجابهما فيه...
وقوله: "وَلا تَتّبِعانِ سَبِيلَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" يقول: ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خالف له، وإن وعيدي نازل بفرعون وعذابي واقع به وبقومه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فاستقيما) على الرسالة وما أمرتكما به
(وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهو كقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18] ونحوه. وإن كان العلم محيطا أن الأنبياء، صلوات الله عليهم، لا يتبعون سبيل أولئك، ولا يتبعون أهواءهم لما عصمهم عز وجل ولكن ذكر هذا، والله أعلم، ليعلم أن العصمة لا تزيل النهي والأمر، بل تزيد حظرا ونهيا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى أنه اجاب موسى وهارون، فقال لهما "قد اجيبت دعوتكما "والجواب: موافقة للدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الاستقامةُ في الدعاء تَرْكُ الاستعجال في حصول المقصود، ولا يَسْقُطُ الاستعجالُ من القلب إلا بوجدان السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بِحُسْن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب.
ويقال من شرط الدعاء صِدْقُ الافتقار في الابتداء، ثم حُسْنُ الانتظار في الانتهاء، وكمال هذا الرضا بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار. ويقال في الآية تنبيهٌ على أنَّ للأمورِ آجالاً معلومة، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم في الوقت المعلوم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والمعنى: إنّ دعاءكما مستجاب، وما طلبتما كائن ولكن في وقته {فاستقيما}: فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلاّ قليلاً ولا تستعجلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام، أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً: {قال} ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال: {قد أجيبت دعوتكما} والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً...
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله: {فاستقيما} أي: فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً. أكد قوله: {ولا تتبِّعان} بالاستعجال أو الفترة عن الشكر {سبيل الذين لا يعلمون}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوتُكُمَا} أي قبلت، وإذا قبلت نفذت.
{فَاسْتَقِيمَا} على ما أنتما عليه من دعوة فرعون وقومه إلى الحق، ومن إعداد بني إسرائيل للخروج من مصر. وعن ابن عباس رضي الله عنه: فامضيا لأمري وهو الاستقامة.
{ولاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولا تسلكان طريق الذين لا يعلمون سنتي في خلقي، وإنجاز وعدي لرسلي، فتستعجلا الأمر قبل أوانه، وتستبطئا وقوعه في إبانه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).. فيخبطوا على غير علم، ويترددوا في الخطط والتدبيرات، ويقلقوا على المصير، ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستقامة: حقيقتها الاعتدال، وهي ضد الاعوجاج، وهي مستعملة كثيراً في معنى ملازمة الحق والرشد، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء. وقيل للحق: طريق مستقيم. وفي حديث أبي عَمْرَةَ الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم. ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا.