معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } . أراد بالزوج والزوجة إذا لم يكن من قبلها نشوز ولا فاحشة .

قوله تعالى : { وآتيتم } . أعطيتم .

قوله تعالى : { إحداهن قنطاراً } . وهو المال الكثير صداقاً .

قوله تعالى : { فلا تأخذوا منه } . من القنطار .

قوله تعالى : { شيئاً أتأخذونه } . استفهام بمعنى التوبيخ .

قوله تعالى : { بهتاناً وإثماً مبيناً } . انتصابهما من وجهين : أحدهما : بنزع الخافض . والثاني : بالإضمار تقديره تصيبون في أخذه بهتاناً وإثماً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

وبعد أن بين - سبحانه - أنه يجوز لرجل أن يأخذ من المرأة بعض ما أعطاها من صداق إذا أتت بفاحشة مبينة . . عقب ذلك ببيان الحكم فيما إذا كان الفراق من جانب الزوج دون أن تكون المرأة قد أتت بفاحشة فقال - تعالى - { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } والاستبدال : طلب البدل ، بأن يطلق الرجل امرأة ويتزوج بأخرى .

والقنطار : أصله من قنطرت الشئ إذا رفعته . ومنه القنطرة ، لأنها بناء مرتفع مشيد . والمراد به هنا المال الكثيرة الذى هو أقصى ما يتصور من مهر يدفعه الرجل للمرأة .

والمعنى : وإن أردتم أيها الأزواج { استبدال زَوْجٍ } أى تزوج امرأة ترغبون فيها " مكان زوج " أى مكان امرأة لا ترغبون فيها ، بل ترغبون فى طلاقها { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } أى أعطى أحدكم إحدى الزوجات التى تريدون طلاقها مالا كثيراً على سبيل الصداق لها { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } أى فلا نأخذوا من المال الكثير الذى أعطيتموه لهن شيئا أياً كان هذا الشئ ، لأن فراقهن كان بسبب من جانبكم لا من جانبهن .

وعبر - سبحانه - ب { إِنْ } التى تفيد الشك فى وقوع الفعل ؛ للتنبيه على ان الإِرادة قد تكون غير سليمة ، وغير مبنية قوية ، فعلى الزوج أن يتريث ويتثبت ويحسن التدبر فى عواقب الأمور .

والمراد بالزوج فى قوله { استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } الجنس الذى يصدق على جميع الأزواج .

والمراد من الإِيتاء فى قوله { وَآتَيْتُمْ } الالتزام والضمان . أى : التزمتم وضمنتم أن تؤتوا إحداهن هذا المال الكثير .

والجملة حالية بتقدير قد . أي : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وحال أنكم قد آتيتم التى تريدون أن تطلقوها قنطاراً فلا تأخذونها منه شيئا .

والاستفهام فى قوله { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } للإِنكار والتوبيخ ، والبهتان : هو الكذب الذى يدهش ويحير لفظاعته . ويطلق على كل أمر كاذب يتحير العقل فى إدراك سببه أو لا يعرف مبررا لوقوعه ، كمن يعتدى على الناس ويتقول عليهم الأقاويل ، مع أنه ليست هناك عداوة سابقة بينه وبينهم .

قال صاحب الكشاف : والبهتان : أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو برئ منه ولأنه يبهت عند ذلك . أى يتحير .

والإِثم : هو الذنب العظيم الذى يبعد صاحبه عن رضا الله - تعالى - { والمبين } هو الشئ الواضح الذى يعلن عن نفسه بدون لبس أو خفاء .

وقوله { بُهْتَاناً وَإِثْماً } مصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف ، أى : أتأخذون ما تريدون أخذه منهن باهتين ، أى فاعلين فعلا تتحير العقول فى سببه ، وآثمين بفعله إثما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء ؟ !

ويصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله ، ويكون ذلك أشد فى التوبيخ والإِنكار ، إذ يكون المعنى عليه : أتأخذونه لأجل البهتان والإِثم المبين الذى يؤدى إلى غضب الله عليكم ؟ ! إن إيمانكم يمنعكم من إرتكاب هذا الفعل الشنيع فى قبحه .

قالوا : كان الرجل فى الجاهلية إذا أراد التزوج بأمرأة أخرى ، بهت التى تحته - أى رماها بالفاحشة التى هى بريئة منها - حتى يلجئها إلى أن تطلب طلاقها منه فى نظير أن تترك له ما لها عليه من صداق أو غيره ، فنهوا عن ذلك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } تطليق امرأة وتزوج أخرى . { وآتيتم إحداهن } أي إحدى الزوجات ، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس . { قنطارا } مالا كثيرا . { فلا تأخذوا منه شيئا } أي من قنطار . { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } إستفهام إنكار وتوبيخ ، أي تأخذونه باهتين وآثمين ، ويحتمل النصب على العلة كما في قولك : قعدت عن الحرب جبنا ، لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم . قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة ، فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، وقد يستعمل في الفعل الباطل ولذلك فسر ههنا بالظلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها ، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج ، والمنع من أخذ مالها مع ذلك ، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته ، واختلف العلماء ، إذا كان الزوجان يريدان الفرق ، وكان منهما نشوز وسوء عشرة ، فقال مالك رحمه الله : للزوج أن يأخذ منها إذا سبب الفراق ، ولا يراعي تسبيبه هو ، وقالت جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك ، وقال بعض الناس : يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور ، لأنه الله تعالى قد مثل بقنطار ، ولا يمثل تعالى إلا بمباح .

وخطب عمر بن الخطاب فقال : ألا لا تغالوا بمهور نسائكم ، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة ، يقول : تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة{[3914]} ، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت ، كيف هذا ؟ والله تعالى يقول : { وآتيتم إحداهن قنطاراً } قال : فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ، ويروى أنه قال : امرأة أصابت ورجل أخطأ ، والله المستعان ، وترك الإنكار ، وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا كقوله عليه السلام ، ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ){[3915]} فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص وقد قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد - وقد جاء يستعينه في مهره - فسأله عن المهر ، فقال : مائتين ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل ، الحديث ){[3916]} فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وذلك مكروه باتفاق ، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال ، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف «إحداهن » وهي لغة تحذف على جهة التخفيف ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونَسْمَعُ مِنْ تَحْتِ العجَاجِ لَهَا زمْلا{[3917]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

*إنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالبِسوني بُرْقُعا{[3918]}*

وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران ، وقرأ أبو السمال «منه شيئاً » بفتح الياء والتنوين ، وهي قراءة أبي جعفر والبهتان : مصدر في موضع الحال ، ومعناه : محيراً لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه .


[3914]:- قال القرطبي: علق القربة: عصامها الذي تعلق به، وعرق القربة هو ماؤها، وقيل هو سيلانها. وقال الأصمعي: معناها الشدة، ولا أدري ما أصلها.
[3915]:- أورده لأحمد في مسنده 1/ 241 (عن ابن عباس) وانظر ابن ماجة (مساجد:1)
[3916]:- هو عبد الله بن أبي حدرد ويروي حفيده إسماعيل أن جده عبد الله تزوج امرأة على أربع أواق فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لو كنتم تنحتون من الجبل ما زدتم)؛ أخرجه أحمد من طريق عبد الواحد بن أبي عون عن جدته عن ابن أبي حدرد بمعناه (انظر الإصابة 4/ 54، 55).
[3917]:- هذا عجز بيت، وصدره: "تضب لثات الخيل في حجراتها". أورده ابن جني في الخصائص 3/151، والمحتسب 1/120، 184 شاهدا على حذف الهمزة، انظر القرطبي 5/101.
[3918]:- ورد هذا الشطر أيضا في الخصائص 3/ 151 والمحتسب 1/120 والقرطبي 5/101 ولم أهتد لقائله أو شطره الآخر.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج}: وإن أراد الرجل طلاق امرأته ويتزوج أخرى غيرها، {وآتيتم إحداهن قنطارا}: وآتيتم إحداهن من المهر قنطارا من ذهب، والقنطار ألف ومائتا دينار، {فلا تأخذوا منه شيئا} إذا أردتم طلاقها، يقول: فليس له أن يضر بها حتى تفتدي منه، يقول: {أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا}: بينا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وَإنْ أرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ}: وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها {وآتَيْتمْ إحْدَاهنّ}: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا، والقنطار: المال الكثير. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه والصواب من القول في ذلك عندنا. {فلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا}: فلا تضرّوا بهنّ إذا أردتم طلاقهنّ ليفتدين منكم بما آتيتموهن. {أتأْخُذُونَهُ بُهْتانا وإثْما مبِينا}: أتأخذون ما آتيتموهنّ من مهورهنّ، {بُهْتانا}: ظلما بغير حقّ، {وإثْما مُبِينا}: وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قد اقتضت هذه الآية إيجابَ المهر لها تمليكاً صحيحاً وَمَنْعَ الزوج أن يأخذ منها شيئاً مما أعطاها، وأخبر أن ذلك سالمٌ لها سواءٌ استبدل بها أو أمسكها، وأنه محظور عليه أخْذُ شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخْذَ مال الغير في قوله تعالى: {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وظاهره يقتضي حَظْرَ أَخْذِ شيء منه بعد الخلوة، فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلّق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حَظْرِ الأخذ في كل حال إلا ما خصّه الدليل... وأكّد الله تعالى حَظْرَ أَخْذِ شيء مما أعطى بأن جعله ظلماً كالبهتان، وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه، وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه؛ فشبَّه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتاناً وإثماً. وقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} يدل على أن من وهب لامرأته هِبَةً لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها، وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْفِرَاقَ لِلْأَزْوَاجِ وَالِانْتِقَالَ بِالنِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ إلَى امْرَأَةٍ أَخْبَرَ عَنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ إلَيْهِنَّ عِنْدَ فِرَاقِهِنَّ؛ فَوَطْأَةٌ وَاحِدَةٌ حَلَالًا تُقَاوِمُ مَالَ الدُّنْيَا كُلِّهِ، نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَنْ يَعْتَرِضُوهُنَّ فِي صَدَقَاتِهِنَّ، إذْ قَدْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ وَصَارَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فِيهِ جَوَازُ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُقَلِّلُونَهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً» فَقَامَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرُمُنَا أَنْتَ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فَقَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ».

وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ مِثْلُهُ إلَى قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، زَادَ: «فَإِنَّ الرَّجُلَ يُغَلِّي بِالْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِهَا. فَتَكُونُ حَسْرَةٌ فِي صَدْرِهِ فَيَقُولُ: كُلِّفْت إلَيْكَ عِرْقَ الْقِرْبَةِ. قَالَ: فَكُنْت غُلَامًا مَوْلُودًا لَمْ أَدْرِ مَا هَذَا؛ قَالَ: وَأُخْرَى يَقُولُونَ لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ: قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ وَأُفْرِدَ دُونَ رَاحِلَتِهِ أَوْ أَعْجَزَهَا بِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَاتَ فَلَهُ الْجَنَّةُ».

وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عُمَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّدْبَ إلَى التَّعْلِيمِ؛ وَقَدْ تَنَاهَى النَّاسُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى بَلَغَ صَدَاقُ امْرَأَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ، وَهَذَا قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِنْ حَلَالٍ. وَقَدْ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ غَالَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ أَيَرُدُّهُ السُّلْطَانُ؟ قَالَ: لَا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَهُ مِنْ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: إنَّهَا صَغِيرَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي»، فَلِذَلِكَ رَغِبْت فِي مِثْلِ هَذَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: إنِّي أُرْسِلُهَا حَتَّى تَنْظُرَ إلَى صِغَرِهَا، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَتْ، فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي يَقُولُ: هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ رَضِيتهَا. فَأَنْكَحَهَا عَلِيٌّ فَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ صَدَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَرُوِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ...

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، يُقَالُ هِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. «وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ».

وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَضِيتِ عَنْ مَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا جَازَ».

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج}

المسألة الثانية: قالوا: الآية تدل على جواز المغالاة في المهر، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن كراهة المغالاة. وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله: {وآتيتم إحداهن قنطارا} لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لا يدل على حصول الآلهة، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين» ولم يلزم منه جواز القتل.

...

المسألة الخامسة: اعلم أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج، وإما أن يكون من قبل الزوجة، فإن كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فإنه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك، وإذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع؛ لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}.

ثم قال تعالى: {أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة، وأصله من بهت الرجل إذا تحير، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمته، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه {بهتانا}.

...

...

...

المسألة الثالثة: في تسمية هذا الأخذ «بهتانا» وجوه:

الأول: أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا.

الثاني: أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها، وأن لا يأخذه منها، فإذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا.

الثالث: أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر، جعل كأن أحدهما هو الآخر. الرابع: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله، فإذا أخذ منها شيئا أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك. وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر.

الخامس: أن عقاب البهتان والإثم المبين كان معلوما عندهم فقوله: {أتأخذونه بهتانا} معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا}.

المسألة الرابعة: قوله: {أتأخذونه} استفهام على معنى الإنكار والإعظام، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.

ثم قال تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا}

واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا:

أحدهما: أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر. وثانيها: أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء. أن الحياة غير مستطاعة، وأنه لا بد من الانفصال، واستبدال زوج مكان زوج، فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق، وما ورثت من مال، لا يجوز استرداد شيء منه، ولو كان قنطارا من ذهب. فأخذ شيء منه إثم واضح، ومنكر لا شبهة فيه: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا. أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟)

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لا جرم أنّ الكراهية تعقبها إرادة استبدال المكروه بضدّه، فلذلك عطف الشرط على الذي قبله استطراداً واستيفاء للأحكام.

فالمراد بالاستبدال طلاق المرأة السابقة وتزوّج امرأة أخرى.

والاستبدال: التبديل. وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} في سورة البقرة (61) أي إن لم يكن سبب للفراق إلاّ إرادة استبدال زوج بأخرى فيُلجِيء التي يريد فراقها، حتّى تخالعه، ليجد ما لا يعطيه مهراً للتي رغب فيها، نهى عن أن يأخذوا شيئاً ممّا أعطوه أزواجهم من مهر وغيره والقنطار هنا مبالغة في مقدار المالِ المُعطى صداقاً أي ما لا كثيراً، كثرة غير متعارفة. وهذه المبالغة تدلّ على أنّ إيتاء القنطار مباح شرعاً لأنّ الله لا يمثّل بما لا يَرضى شرعه مثل الحرام، ولذلك لمّا خطب عمر بن الخطاب فنهَى عن المغالاة في الصدُقات، قالت له امرأة من قريش بعد أن نزل يا أمير المؤمنين كتاب الله أحقّ أن يُتبع أوْ قولك قال: بل كتاب الله بم ذَلك؟ قالت: إنّك نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء، والله يقول في كتابه {وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء: 20] فقال عمر « كلّ أحد أفقهُ من عُمر». وفي رواية قال « امرأة أصَابتْ وأمير أخطَأ واللَّهُ المستعان» ثم رجع إلى المنبر فقال: « إنّي كنت نهيتكم أن تَغَالَوْا في صدقات النساء فليفعل كلّ رجل في ماله ما شاء». والظاهر من هذه الرواية أنّ عمر رجع عن تحجير المباح لأنّه رآه ينافي الإباحة بمقتضى دلالة الإشارة وقد كان بَدَا له من قبل أنّ في المغالاة علّة تقتضي المنع، فيمكن أن يكون نسي الآية بناء على أنّ المجتهد لا يلزمه البحث عن المعارض لدليلِ اجتهاده، أو أن يكون حملها على قصد المبالغة فرأى أنّ ذلك لا يدلّ على الإباحة، ثم رجع عن ذلك أو أن يكون رأى لنفسه أن يحجّر بعض المباح للمصلحة ثمّ عدل عنه لأنّه ينافي إذن الشرع في فعله أو نحو ذلك.

وضمير: {إحداهن} راجع إلى النساء. وهذه هي المرأة التي يراد طلاقها.

وتقدّم الكلام على القنطار عند تفسير قوله تعالى: {والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} في سورة آل عمران (14).

والاستفهام في أتأخذونه إنكاري.

والبهتان مصدر كالشُّكران والغُفْران، مصدر بهَتَه كمَنَعَه إذا قال عليه ما لم يَفْعَل، وتقدّم البهت عند قوله تعالى: {فبهت الذي كفر} في سورة البقرة (258).

وإنّما جعل هذا الأخذ بهتانا لأنّهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة وأرادوا طلاقها، رموها بسوء المعاشرة، واختلقوا عليها ما ليس فيها، لكي تخشى سوء السمعة فتبذل للزوج ما لا فداء ليطلّقها، حكى ذاك فخر الدين الرازي، فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظِنَّة بأنَّها أتت ما لا يُرضي الزوج، فقد يصدّ ذلك الراغبين في التزوّج عن خطبتها، ولذلك لمّا أذن الله للأزواج بأخذ المال إذا أتت أزواجهم بفاحشة، صار أخذ المال منهنّ بدون ذلك يُوهم أنّه أخذه في محل الإذن بأخذه، هذا أظهر الوجوه في جعل هذا الأخذ بهتاناً.

وأمّا كونه إثماً مبيّنا فقد جُعل هنا حالا بعد الإنكار، وشأن مثل هذا الحال أن تكون معلومة الانتساب إلى صاحبها حتّى يصبح الإنكار باعتبارها، فيحتمل أنّ كونها إثماً مبيّنا قد صار معلوماً للمخاطبين من قوله: {فلا تأخذوا منه شيئاً}، أو من آية البقرة (229) {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} أو ممّا تقرّر عندهم من أنّ حكم الشريعة في الأموال أن لا تحلّ إلاّ عن طيب نفس.