مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }

فيه مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة ، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } الآية والقنطار المال العظيم ، وقد مر تفسيره في قوله تعالى : { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } .

المسألة السادسة : قالوا : الآية تدل على جواز المغالاة في المهر ، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم ، فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية ، فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر ، ورجع عن كراهة المغالاة . وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله : { وآتيتم إحداهن قنطارا } لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } لا يدل على حصول الآلهة ، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع ، وقال عليه الصلاة والسلام : «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين » ولم يلزم منه جواز القتل ، وقد يقول الرجل : لو كان الإله جسما لكان محدثا ، وهذا حق ، ولا يلزم منه أن قولنا : الإله جسم حق .

المسألة الثالثة : هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها ، وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله ، فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حسا ، وبين ما إذا لم يؤتها .

المسألة الرابعة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر ، قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر ، وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة ، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال : ولا يجوز أن يقال إنه مخصوص بقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر : المراد من المسيس الخلوة ، وقال عبد الله : هو الجماع ، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية .

والجواب : أن هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك .

المسألة الخامسة : اعلم أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج ، وإما أن يكون من قبل الزوجة ، فإن كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فإنه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا ، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع ، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه ، ثم إنه يفيد الملك ، وإذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع ؛ لقوله تعالى : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } .

ثم قال تعالى : { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة ، وأصله من بهت الرجل إذا تحير ، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمته ، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه { بهتانا } ، ومنه الحديث : " إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته " .

المسألة الثانية : في أنه لم انتصب قوله : { بهتانا } وجوه : الأول : قال الزجاج : البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال ، والمعنى : أتأخذونه مباهتين وآثمين . الثاني : قال صاحب «الكشاف » : يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضا في الحقيقة ، كقولك : قعد عن القتال جبنا . الثالث : انتصب بنزع الخافض ، أي ببهتان . الرابع : فيه إضمار تقديره : تصيبون به بهتانا وإثما .

المسألة الثالثة : في تسمية هذا الأخذ «بهتانا » وجوه : الأول : أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول : ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا . الثاني : أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها ، وأن لا يأخذه منها ، فإذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا . الثالث : أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر ، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر ، جعل كأن أحدهما هو الآخر . الرابع : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله ، فإذا أخذ منها شيئا أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة ، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان ، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك . وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها ، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر ، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر ، الخامس : أن عقاب البهتان والإثم المبين كان معلوما عندهم فقوله : { أتأخذونه بهتانا } معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } .

المسألة الرابعة : قوله : { أتأخذونه } استفهام على معنى الإنكار والإعظام ، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل .

ثم قال تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا }

واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا : أحدهما : أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة ، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر . وثانيها : أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم ، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر ، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا . وثالثها : قوله تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال : فضا يفضو وفضاء إذا اتسع ، قال الليث : أفضى فلان إلى فلان ، أي وصل إليه ، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه ، وللمفسرين في الإفضاء في هذه الآية قولان : أحدهما : أن الإفضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي ؛ لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر ، وإن خلا بها .

والقول الثاني : في الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها ، قال الكلبي : الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر .

واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن الليث قال : أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع ، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل . الثاني : أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب ، فقال : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع لا مجرد الخلوة ، فوجب حمل الإفضاء عليه . الثالث : وهو أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي إليه ، لأن كلمة «إلى » لانتهاء الغاية ، ومجرد الخلوة ليس كذلك ، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر ، فامتنع تفسير قوله : { أفضى بعضكم إلى بعض } بمجرد الخلوة .

فان قيل : فإذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الإفضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا . وأنتم لا تقولون به .

قلنا : القائل قائلان ، قائل يقول : المهر لا يتقرر إلا بالجماع ، وآخر : إنه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة ، فكان هذا القول باطلا بالإجماع ، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين : إما الجماع ، وإما الخلوة ، والقول بالخلوة باطل لما بيناه ، فبقي أن المراد بالإفضاء هو الجماع . الرابع : أن المهر قبل الخلوة ما كان متقررا ، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض ، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الإفضاء ، هو الخلوة أو الجماع ، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان ، وهو عدم التقرير ، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم .