الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

قوله تعالى : { مَّكَانَ زَوْجٍ } : ظرفٌ منصوبٌ بالاستبدال ، والمرادُ بالزوج هنا الجمعُ أي : وإنْ أردتم استبدالَ أزواجٍ مكانَ أزواج ، وجاز ذلك لدلالةِ جمعِ المستبدِلين ، إذ لا يُتَوَهَّم اشتراك المخاطبين في زوجٍ واحد مكانَ زوجٍ واحد ، ولإِرادة معنى الجمع عادَ الضميرُ من قوله : " إحداهُنَّ " على " زوج " جمعاً . والتي نَهَى عن الأخذ منها هي المستبدلُ مكانَها ، لأنها آخذةٌ منه بدليل قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } وهذا إنما هو في القديمةِ لا المُسْتحدثةِ .

وقال : { إِحْدَاهُنَّ } ليدلَّ على أن قوله : { وَآتَيْتُمْ } المراد منه : وآتى كلُّ واحد منكم إحداهن ، أي : إحدى الأزواج ، ولم يقل : " آتيتموهن قنطاراً " لئلا يُتَوَهَّم أن الجميع المخاطبين آتَوا الأزواج قنطاراً ، والمراد : آتى كلُّ واحد زوجَه قنطاراً ، فدل لفظ " إحداهن " على أن الضمير في " آتيتم " المرادُ منه كلُّ واحدٍ واحدٍ كما دَلَّ لفظ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } على أنَّ المرادَ استبدالُ أزواجٍ مكانَ أزواج ، فأُريد بالمفرد هنا الجمعُ لدلالةِ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ } .

وأُريد بقوله { وَآتَيْتُمْ } كلُّ واحد واحد ، لدلالة " إحداهن " وهي مفردة على ذلك . ولا يُدَلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجزَ ولا أفصحَ من هذا التركيب . وتقدَّم معنى القنطار واشتقاقه في آل عمران . والضمير في " منه " عائد على " قنطاراً " .

وقرأ ابن محيصن : " آتيتم احداهن " بوصل ألف " إحدى " كما قرىء : { إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ } [ المدثر : 35 ] حَذَفَ الهمزة تخفيفاً كقوله :

إنْ لم أقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعاً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وبهذا الذي ذكرته يتضح معنى الآية .

وقد طَوَّل أبو البقاء فيها ولم يأت بطائل ، ولا بد من التعرُّض لما قاله والتنبيه عليه . قال : " وفي قوله { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } إشكالان ، أحدهما : أنه جَمَع الضميرَ والمتقدمُ زوجان . والثاني : أن التي يريد أن يُسْتبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً فينهاه عن أخذِه ، فأما التي يريد أن يستحدِثها فلم يكن أعطاها شيئاً حتى ينهى عن أَخْذِه ، ويتأيَّد ذلك بقولِه : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } . والجوابُ عن الأول : أنَّ المرادَ بالزوجِ الجمعُ ، لأنَّ الخطاب لجماعة الرجال ، وكلٌّ منهم قد يريد الاستبدالَ ، ويجوز أن يكونَ جُمِع لأن التي يريد أن يستحدِثَها يُفْضي حالُها إلى أن تكونَ زوجاً ، وأن يريد أن يستبدلَ بها كما استبدل بالأولى فجُمِع على هذا المعنى . وأمَّا الإِشكال الثاني فييه جوابان أحدهما : أَنه وَضَعَ الظاهر مَوْضِعَ المضمر ، والأصل : وآتيتموهن . والثاني : أنَّ المستبدلَ بها مبهمةٌ فقال " إحداهن " إذ لم تتعيَّن حتى يَرْجِع الضمير إليها ، وقد ذكرنا نحواً مِنْ هذا في قوله : { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }

[ البقرة : 282 ] انتهى .

وفي قوله : " وََضَع الظاهرَ موضعَ المضمر " نظرٌ ، لأنَّه لو كانَ الأصل كذلك لأوهم أنَّ الجميعَ آتوا الأزواج قنطاراً كما تقدَّم ، وليس كذلك .

قوله : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً } الاستفهام للإِنكار أي : أتفعلونه مع قُبْحِه . وفي نصب " بهتاناً وإثماً " وجهان : أحدهما : أنهما منصوبان على المفعول من أجلِه أي : لِبهتانكم وإثْمِكم . قال الزمخشري : " وإنْ لم يكن غَرَضاً كقولِك : قعدَ عن القتالِ جُنْباً " . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال ، وفي صاحبها وجهان : أظهرهما : أنه الفاعل في " أتأخذونه " [ أي ] باهتين وآثمين . والثاني : أنه المفعول أي : أتأخذونه مُبْهِتاً مُحَيِّراً لشَنْعَتِه وقُبح الأُحدوثة عنه .

وبُهْتان : فُعْلان من البَهْت ، وقد تقدَّم معناه في البقرة ، وتقدم أيضاً الكلام في " كيف " ومحلِّها من الإِعراب في البقرة أيضاً في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] .