البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } لمّا أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها ، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة ، وأقام الإرادة مقام الفعل .

فكأنه قال : وإن استبدلتم .

أو حذف معطوف أي : واستبدلتم .

وظاهر قوله : وآتيتم أن الواو للحال ، أي : وقد آتيتم .

وقيل : هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر .

والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى : أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً .

واستدل بقوله : وآتيتم إحداهن قنطاراً على جواز المغالاة في الصدقات ، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال : « ألا تغالوا في مهور نسائكم » .

وقال قوم : لا تدل على المغالاة ، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه : قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم : « من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة » ومعلوم أن مسجداً لا يكون كمفحص قطاة ، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر .

وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن أمهز مأتين وجاء يستعين في مهره وغضب صلى الله عليه وسلم : « كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة » وقال محمد بن عمر الرازي : لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله : وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار ، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله : « من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين » انتهى .

ولما كان قوله : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، خطاباً لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجاً مكان أزواج ، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين ، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة ، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله : إحداهن جمعاً والتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها ، إلا المستبدلة .

إذ تلك هي التي أعطاها المال ، لا التي أراد استحداثها بدليل قوله : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وقال : وآتيتم إحداهن قنطاراً ليدل على أن قوله : وآتيتم المراد منه ، وأتى كل واحد منكم إحداهن ، أي إحدى الأزواج قنطاراً ، ولم يقل : وآتيتموهن قنطاراً ، لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتوا الأزواج قنطاراً .

والمراد : آتى كل واحد زوجته قنطاراً .

فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في : آتيتم ، المراد منه كل واحد واحد ، كما دل لفظ : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج ، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة : وإن أردتم .

وأريد بقوله : وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن ، وهي مفردة على ذلك .

وهذا من لطيف البلاغة ، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح .

وتقدّم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير في منه عائد على قنطار .

وقرأ ابن محيصن : بوصل ألف إحداهن ، كما قرئ : أنها لإحدى الكبر بوصل الألف ، حذفت على جهة التحقيق كما قال :

وتسمع من تحت العجاج لها ازملا *** وقال :

إن لم أقاتل فألبسوني برقعا *** وظاهر قوله : فلا تأخذوا منه شيئاً تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدل مكانها بإرادته .

قالوا : وهذا مقيد بقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه } قالوا : وانعقد عليه الإجماع .

ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به .

وقال بكر بن عبد الله المزني : لا تأخذ من المختلعة شيئاً لقوله : فلا تأخذوا منه شيئاً وآية البقرة منسوخة بهذا ، وتقدّم الكلام في ذلك في سورة البقرة .

وظاهر قوله : وآتيتم إحداهن قنطاراً ، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها ، سواء كان مهراً أو غيره .

أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهراً فقط ، بل المعنى : أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئاً مما آتاها ، سواء كان مهراً أو غيره .

وقال أبو بكر الرازي : لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في جميع ما تضمنه الاسم ، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأوّل انتهى كلامه .

وهو منه تسليم أن المراد بقوله : وكيف تأخذونه ، أي المهر .

وبينا أنه لا يلزم ذلك .

قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة ، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز ، أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلاً بها مكان الأولى .

وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى .

وليس بظاهرٍ لأنّ الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه ، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك ، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلاً منه ، فإذا كان معدوماً فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر ؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال ، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم ، في حالة الاستبدال وغيرها .

ومفهوم الشرط غير مراد ، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها ، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية ، وهي أولى به من المفارقة .

فبيّن الله أنه لا يأخذ منها شيئاً .

وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها ، مع سقوط حقه عن بضعها ، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها ، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه .

وقرأ أبو السمال وأبو جعفر : شيا بفتح الياء وتنوينها ، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء .

{ أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً } أصل البهتان : الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه .

أي : يتحير ثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتاناً .

وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، أي : أتفعلون هذا مع ظهور قبحه ؟ وسمي بهتاناً لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتفتدي منه مهرها ، فجاءت الآية على الأمر الغالب .

وقيل : سمي بهتاناً لأنه كان فرض لها المهر ، واسترداده يدل على أنه يقول : لم أفرضه ، وهذا بهتان .

وانتصب بهتاناً وإثماً على أنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل ، التقدير : باهتين وآثمين .

أو من المفعول التقدير : مبهتاً محيراً لشنعته وقبح الأحدوثة ، أو مفعولين من أجلهما أي : أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم ؟ قال ذلك الزمخشري قال : وإن لم يكن غرضاً كقولك : قعد عن القتال جبناً .

/خ28