قوله تعالى : { وإلى مدين أخاهم شعيبا } ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين ، وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ، وهم أصحاب الأيكة : أخاهم شعيباً في النسب لا في الدين ، قال عطاء : هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم ، وقال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكائيل بن يسجر بن مدين بن إبراهيم ، وأم ميكائيل بنت لوط ، وقيل : هو شعيب بن يثرون ابن مدين بن إبراهيم ، وكان شعيب أعمى ، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان .
قوله تعالى : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } ، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } ولم تكن لهم آية مذكورة ؟ قيل : قد كانت لهم آية إلا أنها لم تذكر ، وليست كل الآيات مذكورة في القرآن ، وقيل : أراد بالبينة مجيء شعيب .
قوله تعالى : { فأوفوا الكيل } ، أتموا الكيل .
قوله تعالى : { والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم } ، لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها .
قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } ، أي :ببعث الرسل والأمر بالعدل ، وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم .
ثم قصت علينا سورة الأعراف بعد ذلك قصى شعيب مع قومه ، فقالت : { وإلى مَدْيَنَ . . . } .
قوله : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } أى : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا . ومدين اسم للقبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى معان بين حدود الحجاز والشام ، وهم أصحاب الأيكة - والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية معان ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا .
وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم فهو أخوهم في النسب وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيب قال : " ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته " .
وكان قومه أهل كفر وبخص للمكيال والميزان فدعاهم إلى توحيد الله - تعالى - ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق .
وعن السدى وعكرمة : أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ، وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأنه لم يبعث نبى مرتين إلا شعيب - عليه السلام - .
ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة فأهل مدين هم أصحاب الأيكة أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة - ، وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر .
وبعد أن دعاهم إلى وحدانية الله شأن جميع الرسل في بدء دعوتهم قال لهم : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أى : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتى توجب عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما كانت معجزته ؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، ولأنه لا بد لمدعى النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا لم تصح دعواه ، وكان متنبئا لا نبياً ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه .
ثم أخذ في نهيهم عن أبرز المنكرات التي كانت متفشية فيهم فقال - كما حكى القرآن عنه - :
{ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } الكيل والميزان مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن به ، كالعيش بمعنى ما يعاش به . أو المكيل والموزون .
أى : فأتموا الكيل والميزان للناس بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } أى : ولا تنقصوهم حقوقهم بتطفيف الكيل ونقص الوزن فيما يجرى بينكم وبينهم من معاملات .
يقال : بخسه حقه يبخصه إذا نقصه إياه . وظلمه فيه " وتبخسوا " تعدى إلى مفعولين أولهما الناس والثانى أشياءهم .
وفائدة التصريح بالنهى عن النقص بعد الأمر بالإيفاء ، تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده .
قال الآلوسى : وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه . وقد جاء عن ابن عباس أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم . قيل ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه . وكثير ممن ينتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس ، وليتهم قنعوا به بل جمعوا " حشفا وسوء كيلة " فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم نهاهم عن الافساد بوجه عام فقال : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أى : لا تفسدوا في الأرض بما ترتكبون فيها من ظلم وبغى ، وكفر وعصيان ، بعد أن أصلح أمرها وأمر أهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون الذين يعدلون في معاملاتهم ويلتزمون الحق في كل تصرفاتهم .
ثم ختمت الآية بتلك الجملة الكريمة التي استجاش بها شعيب مشاعر الإيمان في نفوس قومه حيث قال لهم : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
أى : ذلكم الذي آمركم به وأنهاكم عنه خير لكم في الحال والمآل فبادروا إلى الاستجابة لى إن كنتم مصدقين قولى ، ومنتفعين بالهدايات التي جئت بها إليكم من ربكم .
فاسم الإشارة { ذلكم } يعود إلى ما ذكر من الأمر بالوفاء في الكيل والميزان والنهى عن بخس الناس أشياءهم وعن الافساد في الأرض .
قال محمد بن إسحاق : هم من سلالة " مدين بن إبراهيم " . وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال : واسمه بالسريانية : " يثرون " .
قلت : وتطلق مدين على القبيلة ، وعلى المدينة ، وهي التي بقرب " مَعَان " من طريق الحجاز ، قال الله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] وهم أصحاب الأيكة ، كما سنذكره إن شاء الله ، وبه الثقة .
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } هذه دعوة الرسل كلهم ، { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به . ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ، ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، أي : لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * [ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ]{[11960]} لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 1 - 6 ] وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، نسأل الله العافية منه .
ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب ، الذي يقال{[11961]} له : " خطيب الأنبياء " ، لفصاحة عبارته ، وجزالة موعظته .
قيل في { مدين } إنه اسم بلد وقطر ، وقيل اسم قبيلة ، وقيل هم من ولد «مدين » بن إبراهيم الخليل ، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه ، وقال مكي كان زوج بنت لوط ، ومن رأى { مدين } اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي ، ومن رآه اسماً للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف ، وقوله : { أخاهم } منصوب بقوله { أرسلنا } [ الأعراف : 59 ] في أول القصص ، وهذا يؤيد أن { لوطاً } [ الأعراف : 80 ] به انتصب ، وأن اللفظ مستمر ، وهذه الأخوة في القرابة ، وقد تقدم القول في { غيره } وغيره ، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «قد جاءتكم آية من ربكم » مكان { بينة } وقوله : { فأوفوا الكيل } أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء ، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه و { تبخسوا } معناه تظلموا . ومنه قولهم : تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة ، و { أشياءهم } يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن ، وقوله : { ولا تفسدوا } لفظ عام دقيق الفساد وجليله ، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد ، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح ، وقوله : { ذلك خير لكم } أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان .
تفسير صدر هذه الآية هو كتفسير نظيرها في قصّة ثمود ، سوى أنّ تجريد فعل { قال يا قوم } من الفاء هنا يترجّح أنّه للدّلالة على أنّ كلامه هذا ليس هو الذي فاتحهم به في ابتداء رسالته بل هو مِمّا خاطبهم به بعدَ أن دعاهم مِراراً ، وبعدَ أن آمنَ به مَن آمن منهم كما يأتي .
ومَدْيَن أمّة سُمّيت باسم جَدّها مَدْيَنَ بنِ إبراهيم الخليلِ عليه السّلام ، من زوجه الثّالثة التي تزوّجها في آخر عُمره وهي سرية اسمُها قَطُورَا . وتزوّج مَدْيَنُ ابنةَ لوط عليه السّلام وولد له أبناء : هم ( عيفة ) و ( عفر ) و ( حنوك ) و ( أبيداع ) و ( ألْدَعة ) وقد أسكنهم إبراهيم عليه السّلام في ديارهم ، وسطاً بين مسكن ابنه إسماعيل عليه السّلام ومسكن ابنه إسحاق عليه السّلام ، ومن ذرّيتهم تفرّعت بطون مَدْين ، وكانوا يعدّون نحو خمسة وعشرين ألفاً ، ومواطنهم بين الحجاز وخليج العقبة بقرب ساحل البحر الأحمر ، وقاعدة بلادهم ( وَجّ ) على البحر الأحمر وتنتهي أرضهم من الشّمال إلى حدود مَعان من بلاد الشّام ، وإلى نحو تبوك من الحجاز ، وتسمّى بلادهم ( الأيْكَة ) . ويقال : إنّ الأيكة هي ( تبوك ) فعلى هذا هي من بلاد مَدين ، وكانت بلادهم قرى وبوادي ، وكان شعيب عليه السّلام من القرية وهي ( الأيْكَة ) ، وقد تَعرّبوا بمجاورة الأمم العربيّة وكانوا في مدّة شعيب عليه السّلام تحت ملوك مصر ، وقد اكتسبوا بمجاورة قبائل العرب ومخالطتهم لكونهم في طريق مصر ، عربيّة فأصبحوا في عداد العرب المستعربة ، مثل بني إسماعيل عليه السّلام ، وقد كان شاعر في الجاهلية يعرف بأبي الهَمَيْسَع هو من شعراء مَدْيَن وهو القائل :
إن تَمْنَعِي صَوْبَكِ صوب المدمع *** يجْري على الخدّ كضئب الثَّغْثَع
من طَمْحَةٍ صبيرُها جَحْلَنْجَعِ
ويقال : إنّ الخطّ العربي أوّل ما ظهر في مدْين .
وشعيب عليه السّلام هو رسولٌ لأهل مدين ، وهو من أنفسهم ، اسمُه في العربيّه شُعيب عليه السّلام واسمه في التّوراة : ( يَثْرُون ) ويسمّى أيضاً ( رَعْوَئِيلَ ) وهو ابن ( نويلى أو نويب ) بن ( رَعْويل ) بن ( عيفا ) بن ( مدين ) . وكان موسى عليه السّلام لمّا خرج من مصر نزل بلاد مديَن وزوّجَه شعيبٌ ابنتَه المسمّاة ( صَفورَه ) وأقام موسى عليه السّلام عنده عشر سنين أجيراً .
وقد خبط في نسب مدين ونسب شُعيب عليه السّلام جمع عظيم من المفسّرين والمؤرّخين ، فما وجدتَ ممّا يخالف هذا فانبذه . وعَدّ الصفدي شعيباً في العِميان ، ولم أقف على ذلك في الكتب المعتمدة . وقد ابتدأ الدّعوة بالإيمان لأنّ به صلاح الاعتقاد والقلب ، وإزالة الزّيف من العقل .
وبيِّنة شعيب عليه السّلام التي جاءت في كلامه : يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عَرفوها ولم يذكرها القرآن ، كما قال ذلك المفسّرون ، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبيّنة حجّة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشّرك وسوء الفعل ، وعجزوا عن مجادلته فيها ، فقامت عليهم الحجّة مثل المجادلة التي حكيت في سورة هود فتكون البيّنة أطلقت على ما يُبيّن صدق الدّعوى ، لا على خصوص خارق العادة ، أو أن يكون أراد بالبيّنة ما أشار إليه بقوله : { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا } أي يكون أنذرهم بعذاب يحلّ بهم إن لم يؤمنوا ، كما قال في الآية الأخرى { فأسقط علينا كِسْفا من السّماء إن كنت من الصّادقين } [ الشعراء : 187 ] فيكون التّعبير بالماضي في قوله : { قد جاءتكم } مراداً به المستقبل القريب ، تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، أو أن يكون عَرض عليهم أن يظهر لهم آية ، أي معجزة ليؤمنوا ، فلم يسألوها وبادروا بالتّكذيب ، فيكون المعنى مثلَ ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه السّلام : { قد جئتكم ببينة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنتَ جئتَ بآية فأتِ بها } [ الأعراف : 105 ، 106 ] الآية ، فيكون معنى : { قد جاءتكم } قد أعِدّت لأنّ تجيئكم إذا كنتم تؤمنون عند مجيئها .
والفاء في قوله : { فأوفوا الكيل والميزان } للتّفريع على مضمون معنى { بينة } لأنّ البيّنة تدلّ على صدقه ، فلمّا قام الدّليل على صدقه وكان قد أمرهم بالتّوحيد بادىء بدء ، لما فيه من صلاح القلب ، شرع يأمرهم بالشّرائع من الأعمال بعد الإيمان ، كما دلّ عليه قوله الآتي : { إن كنتم مؤمنين } فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشّرائع الفرعيّة ، وإبلاغٌ لمن لم يؤمن بما يلزمهم بعد الإيمان بالله وحده . وفي دعوة شعيب عليه السّلام قومه إلى الأعمال الفرعيّة بعد أن استقرت الدّعوة إلى التّوحيد ما يؤذن بأنّ البشر في ذلك العصر قد تطوّرت نفوسهم تطوّراً هيّأهم لقبول الشّرائع الفرعيّة ، فإنّ دعوة شعيب عليه السّلام كانت أوسع من دعوة الرّسل من قبله هودٍ وصالحٍ عليهم السّلام إذ كان فيها تشريع أحكام فرعيّة وقد كان عصر شعيب عليه السّلام قد أظَلّ عَصْرَ موسى عليه السّلام الذي جاء بشريعة عظيمة ماسّةٍ نواحيَ الحياة كُلَّها .
والبخس فسّروه بالنّقص ، وزاد الرّاغب في « المفردات » قيداً ، فقال : نقص الشّيء على سبيل الظلم ، وأحسن ما رأيت في تفسيره قول أبي بكر بن العربي في « أحكام القرآن » : « البخس في لسان العرب هو النّقص بالتعييب والتّزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنّقصان منه » فلنبن على أساس كلامه فنقول : البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمالٍ في نوعه . ففيه معنى الظلم والتّحيّل ، وقد ذكر ابن سيدة في « المخصص » البَخس في باب الذهاب بحقّ الإنسان ، ولكنّه عندما ذكره وقع فيما وقع فيه غيره من مدوّني اللّغة ، فالبَخس حدث يتّصف به فاعل وليس صفة للشّيء المبْخوس في ذاته ، إلاّ بمعنى الوصف بالمصدر ، كما قال تعالى : { وشَرَوه بثمنٍ بَخس }
[ يوسف : 20 ] أي دون قيمة أمثاله ، ( أي تساهل بائعوه في ثمنه لأنّهم حصّلوه بغير عوض ولا كلفة ) . وأعلم أنّه قد يكون البَخس متعلّقاً بالكمّية كما يقول المشتري : هذا النِّحْي لا يزن أكثر من عشرة أرطال ، وهو يعلم أنّ مثله يزن اثني عشر رطلاً ، أوْ يقولُ : ليس على هذا النّخل أكثر من عشرة قناطير تمراً في حين أنّه يعلم أنّه يبلغ عشرين قنطاراً ، وقد يكون متعلّقاً بالصّفة كما يقول : هذا البعير شَرود وهو من الرّواحل ، ويكون طريق البَخس قولاً ، كما مثَّلنا ، وفعلاً كما يكون من بذل ثمنٍ رخيصٍ في شيء من شأنه أن يباع غالياً ، والمقصود من البَخس أن ينتفع البَاخس الرّاغب في السّلعة المبْخوسة بأنْ يصرف النَّاس عن الرّغبة فيها فتبقى كَلاَّ على جالبها فيضطرّ إلى بيعها بثمن زهيد ، وقد يقصد منه إلقاء الشكّ في نفس جالب السّلعة بأنّ سلعته هي دون ما هو رائج بين النّاس ، فيدخله اليأس من فوائد نتاجه فتكسل الهِمَم .
وما وقع في « اللّسان » من معاني البَخس : أنّه الخسيس فلعلّ ذلك على ضرب من المجاز أو التّوسّع ، وبهذا تعلم أنّ البَخس هو بمعنى النّقص الذي هو فعل الفاعل بالمفعول ، لا النّقص الذي هو صفة الشّيء النّاقص ، فهو أخص من النّقص في الاستعمال ، وهو أخص منه في المعنى أيضاً .
ثمّ إنّ حقّ فعله أن يتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { ولا يبْخس منه شيئاً } [ البقرة : 282 ] فإذا عُدّي إلى مفعولين كما في قوله هنا : { ولا تبْخسوا النّاس أشياءهم } فذلك على معنى التّحويل لتحصيل الإجمال ثمّ التّفصيل ، وأصل الكلام : « ولا تبْخسوا أشياءَ النّاس » فيكون قوله : { أشياءهم } بدل اشتمال من قوله : { الناس } وعلى هذا فلو بني فعل { بخس } للمجهول لقلت بُخِس فلان شيئُه برفع فلان ورفع شيئه . وقد جعله أبو البقاء مفعولاً ثانياً ، فعلى إعرابه لو بني الفعل للمجهول لبَقي ( أشياءهم ) منصوباً . وعلى إعرابنا لو بني الفعل للمجهول لصار أشياؤُهم مرفوعاً على البدليّة من النّاس ، وبهذا تَعلم أنّ بيْن البَخس والتَّطفيف فرقاً قد خفي على كثير .
وحاصل ما أمر به شعيب عليه السّلام قومَه ، بعد الأمر بالتّوحيد ينحصر في ثلاثة أصول : هي حفظ حقوق المعاملة الماليّة ، وحفظ نظام الأمّة ومصالحها ، وحفظُ حقوق حرّية الاستهداء .
فالأوّل قوله : { فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم } فإيفاء الكيل والميزان يرجع إلى حفظ حقوق المشترين ، لأنّ الكائل أو الوازن هو البائع ، وهو الذي يحمله حبّ الاستفضال على تطْفيف الكيل أو الوزن ، ليكون باع الشّيءَ النّاقص بثمن الشّيء الوافي ، كما يحسبه المشتري .
وأمّا النَّهي عن بخس النّاس أشياءهم فيرجع إلى حفظ حقوق البائع لأنّ المشتري هو الذي يبْخس شيء البائع ليهيّئه لقبول الغبن في ثمن شيئه ، وكلا هذين الأمرين حيلة وخداع لتحصيل ربح من المال .
والكيل مصدر ، ويطلق على ما يكال به ، وهو المِكيال كقوله تعالى : { ونزداد كيل بعير } [ يوسف : 65 ] وهو المراد هنا : لمقابلته بالميزان ، ولقوله في الآية الأخرى : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } [ هود : 84 ] ومعنى . إيفاء المكيال والميزان أن تكون آلة الكيل وآلة الوزن بمقدار ما يقدّر بها من الأشياء المقدّرة . وإنَّما خَصّ هذين التحيلين بالأمر والنّهي المذكورين : لأنَّهما كانا شائعين عند مَدْيَن ، ولأنّ التّحيلات في المعاملة الماليّة تنحصر فيهما إذ كان التّعامل بين أهل البوادي منحصراً في المبادلات بأعيان الأشياءِ : عرْضاً وطَلَباً .
وبهذا يَظهر أنّ النّهي في قوله : { ولا تبخسوا النّاس أشياءَهم } أفاد معنى غير الذي أفاده الأمر في قوله : { فأوفوا الكيل والميزان } . وليس ذلك النّهي جارياً مجرى العلّة للأمر ، أو التّأكيد لمضمونه ، كما فسّر به بعض المفسّرين .
وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة ، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها ، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجاً وعَرْضاً في الأسواق ، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِناً لا يخشى غبناً ولا خديعة ولا خِلابة ، فتتوفّر السّلع في الأمّة ، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها ، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين ، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك .
وقوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } هذا الأصل الثّاني من أصول دعوة شعيب عليه السّلام للنّهي عن كلّ ما يفضي إلى إفساد ما هو على حالة الصّلاح في الأرض . وقد تقدّم القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً } في أوائل هذه السّورة ( 56 ) .
والإشارة { بذلكم } إلى مجموع ما تضمّنه كلامه ، أي ذلك المذكورُ ، ولذا أفرد اسم الإشارة . والمذكور : هو عبادة الله وحده ، وإيفاءُ الكيل والميزان ، وتجنب بخس أشياء النّاس ، وتجنبُ الفساد في الأرض . وقد أخبر عنه بأنّه خير لَهم ، أي نفع وصلاح تنتظم به أمورهم كقوله تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } [ الحج : 36 ] . وإنّما كان ما ذُكر خيراً : لأنّه يوجب هناء العيش واستقرار الأمن وصفاءَ الودّ بين الأمّة وزوال الإحَن المفضية إلى الخصومات والمقاتلات ، فإذا تمّ ذلك كثرت الأمّة وعزّت وهابها أعداؤُها وحسنت أحدوثتها وكثر مالها بسبب رغبة النّاس في التّجارة والزّراعة لأمْن صاحب المال من ابتزاز ماله . وفيه خير الآخرة لأنّ ذلك إنْ فعلوه امتثالاً لأمر الله تعالى بواسطة رسوله أكسبهم رضى الله ، فنجَوْا من العذاب ، وسكنوا دار الثّواب ، فالتّنكير في قوله : { خير } للتعظيم والكمال لأنّه جامعُ خيري الدّنيا والآخرة .
وقوله : { إن كنتم مؤمنين } شرط مُقَيِّد لقوله : { ذلكم خير لكم } والمؤمنون لقب للمتّصفين بالإيمان بالله وحده ، كما هو مصطلح الشّرائع وحملُ المؤمنين على المصدّقين لقوله ، ونصحه ، وأمانته : حملٌ على ما يأبَاه السّياق ، بل المعنى ، أنّه يكون خيراً إن كنتم مؤمنين بالله وحدَه ، فهو رجوع إلى الدّعوة للتّوحيد بمنزلة ردّ العجز على الصّدر في كلامه ، ومعناه أنّ حصول الخير من الأشياء المشارِ إليها لا يكون إلاّ مع الإيمان ، لأنّهم إذا فعلوها وهم مشركون لم يحصل منها الخير لأنّ مفاسد الشّرك تُفسد ما في الأفعال من الخَير ، أمّا في الآخرة فظاهر ، وأمَّا في الدّنيا فإنّ الشّرك يدعو إلى أضداد تلك الفضائل كما قال الله تعالى : { وما زَادوهم غَيْر تَتَبيب } [ هود : 101 ] أو يدعو إلى مفاسد لا يَظهر معها نفع تلك المصالح . والحاصل أنّ المراد بالتّقييد نفي الخير الكامل عن تلك الأعمال الصّالحة إن لم يكن فاعلوها مؤمنين بالله حقّ الإيمان ، وهذا كقوله تعالى : { فَكّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مَقْرَبة أو مسكيناً ذا مَتْرَبة ثمّ كَان من الذين آمنوا } [ البلد : 13 17 ] وتأويل الآية بغير هذا عدول بها عَن مهيع الوضوح .