{ وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } عطف على ما مر . والمراد أرسلنا إلى مدين الخ . ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة ، وقيل : هو عربي اسم لماء كانوا عليه ، وقيل : اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذٍ أي أهل مدين مثلاً أو المجاز . والياء على هذا عند بعض زائدة . وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل . وقال آخرون : إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام . وعند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل .
وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل . واختير أنه وضع مرتجلاً هكذا . والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في «تهذيبه » ( ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام ) ، وقيل : ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب ، وبعضهم يقول : ميكائيل بدل ميكيل ، ونقل ذلك عن خط الذهبي في «اختصار المستدرك » . وآخر يقول ملكاني بدله . وذكر أن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام . وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة أن شعيباً هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر بن إبراهيم عليه السلام ، وقيل : في نسبه غير ذاك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا ذكر شعيب يقول : «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه » أي محاورته لهم ، وكأنه كما قيل عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه .
وبعث رسولاً إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة ، قال السدي وعكرمة رضي الله تعالى عنهما : ما بعث الله تعالى نبياً مرتين إلا شعيباً مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة . وأخرج ابن عساكر في «تاريخه » من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً أن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيباً . وهو كما قال ابن كثير غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة ، واحتج له بأن كلاً منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى .
ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم ، والثالثة أصحاب الرس . والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليماً من منفر ومثلوه بالعمى والبرص والجذام ، ولا يرد بلاء أيوب وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروه بعد الإنباء والكلام فيما قارنه ، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته . وقد يقال : إن صح ذلك فهو من هذا القبيل .
{ قَالَ } استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل : فماذا قال لهم ؟ فقيل قال : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ } مر تفسيره { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم . ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام فيه . والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } لترتيب الأمر على مجىء البينة ، واحتمال كونها عاطفة على { اعبدوا } بعيد ، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا الخ ؛ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة . ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب . ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس { فَأَوْفُواْ } الخ وليس بشيء كما لا يخفى . وقال الزمخشري : ( إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب ) اه . وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه ، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته بل في «الكشف » أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيباً عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي . وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة ، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران ( 54 ) في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم : إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام ، والمراد بالكيل ما يكال به مجازاً كالعيش بمعنى ما يعاش به .
ويؤيده أنه قد وقع في سورة هود ( 58 ) { المكيال } وكذا عطف { الميزان } عليه هنا ، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدراً بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد ، وقيل : إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس } أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس . وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس . وتعدى إلى مفعولين أولهما { الناس } والثاني { أَشْيَاءهُمْ } أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع ، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده ، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقاً فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه . وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس . وروي أنهم يعطونه أيضاً بدلها زيوفاً فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء . قيل : ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه . وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفاً وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون . وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة على ما قال الإمام ( لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدأوا بمنعهم عن ذلك النوع ، وكان قومه عليه السلام مشغوفين بالبخس والتطفيف ) أكثر من غيره ، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضاً .
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض } بالجور أو به وبالكفر { بَعْدَ إصلاحها } أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع ، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف ، والفاعل الأنبياء وأتباعهم . وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها ، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان ، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها . ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض .
{ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأياً ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر .
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم ، وقيل : ليس المراد من { خَيْرٌ } هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم .
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قيل : المراد بالإيمان معناه اللغوي ، وتخص الخيرية بأمر الدنيا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي ، ومثل هذا الشرط على ما قال الطيبي إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد ، ويعلم من هذا أن شعيباً عليه السلام كان مشهوراً عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم مشهوراً عند قومه بالأمين . وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر : إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقاً . وقال القطب الرازي : إن ذلك ليس شرطاً للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل : فاتوا به إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به . وقيل : المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلك خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا ، وشرط الإيمان لأن الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر ، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيراً لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى ، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جداً . وزعم الخيالي أن الأظهر أن { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي ، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه . وقد فر من هرة ووقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب .