محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (85)

/ [ 85 ] { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ( 85 ) } .

{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إليهم . قال ابن إسحق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين .

قال ابن كثير : مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة .

{ قال يا قوم } أي : الذين أحب كمالهم دينا ودنيا { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا { قد جاءتكم بينة من ربكم } أي ما تبين به الحق من الباطل . يعني دعوته وإرشاده . ومن هنا قال بعضهم : عنى بالبينة مجيء شعيب ، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة . ومن فسر البينة بالحجة والبرهان والمعجزة المحسوسة ذهابا إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله ، فلا بد من دليل يعلم صدقه به ، وما ذلك إلا المعجزة- قال : إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن ، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن . ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم ، فكل من أبطلت شبهة ضلاله ، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة . لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق . فاحفظه .

قال الجشمي : واختلفوا ، فقيل : لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع- عن أبي هاشم- . وقيل : يجوز أن يدعو إلى ما في العقل- عن أبي علي- انتهى .

/ وقد دلت الآيات هذه على أن شعيبا ، عليه السلام ، دعاهم إلى التوحيد والشرائع ، على ما جرت به عادة الرسل ، فمنها قوله : { فأوفوا الكيل والميزان } أي فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } أي : لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم ، وتأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسا كما قال تعالى{[4142]} : { ويل للمطففين . . . } إلى قوله : { لرب العالمين } .

يقال : بخسه حقه أي نقصه إياه ، وظلمه فيه .

قال الزمخشري : كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم ، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه . قال زهير :

أفي كل أسواق العراق إتاوة*** وفي كل ما باع امروء مكس درهم

قال القاضي : وإنما قال { أشياءهم } للتعميم ، تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير-انتهى- .

والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء . فقيل : في فائدة التصريح بالمنهي عنه ، بيان لقبحه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى : { ولا تبخسوا . . . } الآية- قال : أي لا تسموا لهم شيئا ، وتعطوا لهم غير ذلك . ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن { ولا تفسدوا في الأرض } أي : بالكفر والظلم { بعد إصلاحها } أي : بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام { ذلكم } إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه { خير لكم } في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة ، وفي المآل : { إن كنتم مؤمنين } أي : مصدقين قولي .


[4142]:- [83/ المطففين/ 1-6].