{ ولو ألقى معاذيره } يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ، كما قال : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم }( غافر- 52 ) ، وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء : قال الفراء : ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء : القول ، كما قال : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون }( النحل- 86 ) . وقال الضحاك والسدي : { ولو ألقى معاذيره } يعني : ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب . فعليه من نفسه من يكذب عذره ، وأهل اليمن يسمون الستر : معذاراً ، وجمعه : معاذير ، ومعناه على هذا القول : وإن أسبل الستر ليخفي ما كان يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه .
{ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أى : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها
وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال : المعاذير : الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب .
فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع لا معاذير ؟ قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها .
فالمقصود بهاتين الآيتين : بيان أن الإِنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك ، لأن جوارحه شاهدة عليه ، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة ، لأنها جاءت فى غير وقتها ،
وقال مجاهد : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ولو جادل عنها فهو بصير عليها . وقال قتادة : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه . وقال السدي : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } حجته . وكذا قال ابن زيد ، والحسن البصري ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
وقال قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } يقول : لو ألقى ثيابه .
وقال الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وأهل اليمن يسمون الستر : المعذار .
والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وكقوله { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } هي الاعتذار{[29545]} ألم تسمع أنه قال : { لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] وقال { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } [ النحل : 87 ] { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } [ النحل : 28 ] وقولهم { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
و «المعاذير » هنا قال الجمهور : هي الأعذار جمع معذرة ، وقال السدي والضحاك : هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر : المعذار{[11470]} ، وقال الحسن : المعنى { بل الإنسان على نفسه } بلية ومحنة ، كأنه ذهب إلى البصيرة التي هي طريقة الدم وداعية طلب الثأر{[11471]} وفي هذا نظر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ولو أدلى بحجته لم تنفعه، وكان جسده عليه شاهدا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل الرواية في معنى ذلك،
فقال بعضهم: معناه: بل للإنسان على نفسه شهود من نفسه، ولو اعتذر بالقول مما قد أتى من المآثم، وركب من المعاصي، وجادل بالباطل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل للإنسان على نفسه من نفسه بصيرة ولو تجرّد. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ لم تقبل.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معناه: ولو اعتذر، لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن الإنسان أن عليه شاهدا من نفسه بقوله" بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "فكان الذي هو أولى أن يتبع ذلك، ولو جادل عنها بالباطل، واعتذر بغير الحقّ، فشهادة نفسه عليه به أحقّ وأولى من اعتذاره بالباطل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 14]
{بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس. {ولو ألقى معاذيره} أي ألقى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [النعام: 23] وقوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] فيقدمون على الحلف اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة الشاهد أي أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، وإن ألقى معاذيره، أي وإن شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله عز وجل: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65] وقوله تعالى: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} الآية [فصلت: 20].
فإن قيل: إن الإنسان مذكّر كيف وصفه بالبصيرة بلفظة التأنيث بقوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} ولم يقل: بصير؟ فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنس، فيه الجماعة، ولا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط. ألا ترى إلى قوله: {والعصر} {إن الإنسان لفي خسر} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 1و2و3] استثنى الذين آمنوا من قوله: {إن الإنسان لفي خسر} ولا تستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله عز وجل: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} {ثم رددناه أسفل سافلين} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية [التين: 4و5و6] فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان، فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة، فيكون قوله {بصيرة} راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.
والثاني: قوله: {بصيرة} وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل حتى لا يغرب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة كقولك: فلان علاّمة ونسّابة وراوية للشعر وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس، ونحو ذلك: نفس أمارة بالسوء، فتصير جوارحه كلها بصيرة أي شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار، فيكون قوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} أي نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله، ويجادل أعظم مجادلة، وكان المجادل في الغالب يظن- أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً، قال: {ولو ألقى} أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق {معاذيره} أي كل كلام يمكن أن يخلص به، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل.
فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها، فلا تقبل منها الأعذار، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهوى النفس وشهواتها، وتلك البصيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى: {لا ينفع الظالمين معذرتهم}.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أي ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة، وفيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك وعبادة الأوثان وإنكار البعث منكر باطل تنكره قلوبهم، وأنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل، ولا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة والدين دين الفطرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 14]
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها. فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).. ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر. والفواصل. والإيقاع الموسيقي. والمشاهد الخاطفة. وكذلك عملية الحساب: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) هكذا في سرعة وإجمال.. ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب!
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فحاول أن يقدّم أعذاره التي تخفي طبيعة السوء في عمله، وحركة الجريمة في حياته، لأنه يعرف نفسه بنور بصيرته كيف كان عمله، وكيف كانت حركته، ولهذا فلا يقبل منه أيّ عذر، لأنه لا يمثل الحقيقة الصارخة في واقعه العملي...
وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في مجال التربية الإنسانية الإسلامية، وذلك من أجل بناء شخصية الإنسان على أساس أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه، لتتّحد عنده عناصر الشخصية الداخلية والخارجية، ويكون إيمانه بنفسه منطلقاً من وضوح الرؤية لديه في دوافعه وخفاياه ومواقع حركته في أجواء الآخرين، وعليه أن يصارح نفسه بسلبياته، كما يصارحها بإيجابياته، وأن تكون له شجاعة الاعتراف بالخطأ أمام الناس، فلا يعمل على أن يعطيها صورة الصواب ليدفعه ذلك إلى تغييره عندما يرى تأثيره على حياته وعلى نظرة الناس إليه، بينما يكون الإِصرار عليه ومحاولة الدفاع عنه موجباً للاستغراق فيه والثبات عليه، ما يجعله مشوّه الشخصية يعيش الازدواجية بين ما يعيشه في الداخل، وبين ما يتحرك فيه في الخارج.