ثم شرع - سبحانه - في بيان أقبح الرذائل التي تفوه بها المشركون فقال : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً . . . }
والمراد بهؤلاء القائلين : اليهود الذين قالوا : عزير ابن الله - والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله ، وكفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وغيرهم من نحا نحوهم في تلك الأقوال الشائنة .
وقوله : { سُبْحَانَهُ هُوَ الغني لَهُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض } تنزيه له - عز وجل - عما قالوا ، في حقه من أقاويل باطلة .
أى : تنزه وتقدس عن أن يكون له ولد ، لأنه هو الغني بذاته عن الولد وعن كل شيء ، وهو المالك لجميع الكائنات علويها وسفليها ، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره ، وغيره محتاج إليه ، وخاضع لسلطان قدراته .
قال - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً . وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً . إِن كُلُّ مَن في السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً . لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } وقوله : { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ } تجهيل لهم ورد عليهم . و { إن } هنا نافية ، و { من } مؤكدة لهذا النفي ، ومفيدة للعموم ، والسلطان : الحجة والبرهان .
أى : ما عندكم دليل ولا شبهة دليل على ما زعمتوه من أن لله ولدا ، وإنما قلتم ما قلتم لانطماس بصيرتكم ، واستحواذ الشيطان على نفوسكم .
وقوله - سبحانه - { أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } توبيخ آخر لهم على جهلهم وكذبهم .
أى : أتقوولن على الله - تعالى - قولاً ، لا علم لكم به ، ولا معرفة لكم بحقيقته ؟ إن قولكم هذا لهو دليل على جهلكم وعلى تعمدكم الكذب والبهتان .
قال الآلوسى : " وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة . وأن العقائد لا بد لها من قاطع ، وأن التقليد بمعزل من الاهتداء " .
يقول تعالى منكرًا على من ادعى أن له ولدًا : { سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ } أي : تقدس عن ذلك ، هو الغني عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : فكيف يكون له ولد مما خلق ، وكل شيء مملوك له ، عبد له ؟ ! { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي : ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان ! { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } إنكار ووعيد أكيد ، وتهديد شديد ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 - 95 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهََذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد : اتخذ الله ولدا ، وذلك قولهم : الملائكة بنات الله . يقول الله منزّها نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك : سبحان الله ، تنزيها لله عما قالوا وادّعوا على ربهم . هُوَ الغَنِيّ يقول : الله غنيّ عن خلقه جميعا ، فلا حاجة به إلى ولد ، لأن الولد إنما يطلبه من يطلبه ليكون عونا له في حياته وذكرا له بعد وفاته ، والله عن كلّ ذلك غنيّ ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره ولا يبيد فيكون به حاجة إلى خلف بعده . لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ يقول تعالى ذكره : لله ما في السماوات وما في الأرض ملكا والملائكة عباده وملكه ، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدا ؟ يقول : أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون ؟ إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهَذَا يقول : ما عندكم أيها القوم بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله من حجة تحتجون بها ، وهي السلطان . أتَقُولُون على الله قولاً لا تعلمون حقيقته وصحته ، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه جهلاً منكم بغير حجة ولا برهان .
بيان لجملة { ألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض } [ يونس : 66 ] إلى آخرها ، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله ، لأن هذا كفر خفي من دينهم ، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء .
فضمير { قالوا } عائد إلى { الذين يدعون من دون الله شركاء } [ يونس : 66 ] أي قال المشركون { اتخذ الله ولداً } . وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب ، ذلك أن كثيراً منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة ، وهم بناته من سَروات نساء الجن ، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 40 ، 41 ] .
والاتخاذ : جعل شيء لفائدة الجاعل ، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه . وقد تقدم في قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } في سورة [ الأنعام : 74 ] ، وقوله : { وإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } في [ الأعراف : 146 ] ، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به ، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به . وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى ، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته .
والولد : اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب . وهو مأخوذ من الولادة ، أي النتاج . يقال : ولدت المرأة والناقة ، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح . ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر . يقال : هؤلاء ولد فلان . وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه } [ النحل : 57 ] .
وجملة : { سبحانه } إنشاء تنزيه للرد عليهم ، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها . وهو اسم مصدر ل ( سَبَّح ) إذا نزّه ، نائب عن الفعل ، أي نسبحه . وتقدم عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة [ البقرة : 32 ] ، أي تنزيهاً لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى ، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة : هو { الغني } بياناً لوجه التنزيه ، أي هو الغني عن اتخاذ الولد ، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال ، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصاً غير خفي ، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد ، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات .
وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال .
والغَنِيُّ : الموصوف بالغِنى ، فعيل للمبالغة في فعل ( غَنِيَ ) عن كذا إذا كان غير محتاج ، وغنى الله هو الغنى المطلق ، وفسر في أصول الدين الغنى المُطلق بأنه عدم الافتقار إلى المُخَصِّص وإلى المحل ، فالمخصص هو الذي يُعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضاً عن الأخرى ، فبذلك ثبت للإله الوجودُ الواجب ، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه ، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد ، فلا جرم أنْ كان الغَنِيُّ منزّهاً عن الولد من جهة الانفصال ، ثم هو أيضاً لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولداً له بالتبني لأجل كونه غنياً عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلَف ، قال تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد } [ الأنعام : 101 ] .
وجملة : { له ما في السماوات وما في الأرض } مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه ، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله ، فلا يحتاج إلى إعانة ولد ، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعاً له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم . وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفاً { ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يَتبع الذين يَدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن } [ يونس : 66 ] ودل قوله : { له ما في السماوات وما في الأرض } على أن صفة العبودية تنافي صفة البُنُوة وذلك مثل قوله : { وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مُكرمون } [ الأنبياء : 26 ] .
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يُسترقُّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عَلَيَا .
وجملة : { إنْ عندكم من سلطان بهذا } جواب ثان لقولهم : { اتَّخذ الله ولداً } فلذلك فُصلت كما فصلت جملة { سبحانه } ، فبعد أن استدل على إبطال قولهم ، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك .
و { إن } حرف نفي . و { مِن } مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق ، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويِّها وضعيفها ، عقليِّها وشرعيِّها .
و ( عند ) هنا مستعملة مجازاً . شُبِّه وجودُ الحجة للمحتج بالكون في مكانه ، والمعنى : لا حجَّة لكم .
و { سلطان } محله رفع بالابتداء ، وخبره { عِندكم } واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة .
والسلطان : البرهان والحجة ، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ما نزل الله بها من سلطان } في سورة [ الأعراف : 71 ] .
والباء للملابسة ، وهي في موضع صفة لسلطان } ، أي سلطان ملابس لهذا . والإشارة إلى المقول .
والمعنى : لا حجة لكم تصاحب مَقولكم بأن الله اتخذ ولداً .
وجملة : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } جواب ثالث ناشيء عن الجوابين لأنهم لما أُبطل قولهم بالحجة . ونُفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون ، أي بما لا يوقنون به ، ولكونها جواباً فصلت . فالاستفهام مستعمل في التوبيخ ، لأن المذكور بعده شيء ذميم ، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب .