قوله تعالى : { وقال الملأ من قوم فرعون } له .
قوله تعالى : { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ، وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته .
قوله تعالى : { ويذرك } ، أي : وليذرك .
قوله تعالى : { وآلهتك } ، فلا يعبدك ولا يعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها ، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج السامري لهم عجلاً ، وقال الحسن : كان قد علق على عنقه صليباً يعبده ، وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بعبادتها . وقال لقومه : هذه آلهتكم ، أراد ربها وربكم ، فذلك قوله { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، والضحاك : ويذرك وإلهتك ، بكسر الألف ، أي : عبادتك فلا يعبدك ، لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد ، وقيل : أراد بالآلهة الشمس ، وكانوا يعبدونها . قال الشاعر :
تروحنا من اللعباء قصراً *** وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا
قوله تعالى : { سنقتل أبناءهم } ، قرأ أهل الحجاز : سنقتل بالتخفيف من القتل ، وقرأ آخرون بالتشديد ، من التقتيل على التكثير .
قوله تعالى : { ونستحيي نساءهم } نتركهن أحياء .
قوله تعالى : { وإنا فوقهم قاهرون } ، غالبون قال ابن عباس : كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له : إنه يولد مولود يذهب بملكك ، فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة ، وكان من أمره ما كان ، فقال فرعون : أعيدوا عليهم القتل ، فأعادوا عليهم القتل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل .
وبعد هذا الحديث الذي ساقته السورة عما دار بين موسى وفرعون ، وبين موسى والسحرة ، والذى انتهى بإيمان السحرة برب العالمين بعد ذلك بدأت السورة تحكى لنا ما قاله الملأ من قوم فرعون بعد هزيمتهم المنكرة ، وما قاله موسى - عليه السلام - لقومه بعد أن بلغهم وعيد فرعون وتهديده لهم ، وما رد به قومه عليه مما يدل على سفاهتهم فقالت : { وَقَالَ الملأ . . . . } .
قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .
أى : قال الزعماء والوجهاء من قوم فرعون له ، بعد أن أصابتهم الهزيمة والخذلان في معركة الطغيان والإيمان ، قالوا له على سبيل التهييج والإثارة : أتترك موسى وقومه أحراراً آمنين في أرضك ، ليفسدوا فيها بإدخال الناس في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم .
روى أنهم قالوا له ذلك بعد أن رأوا عدداً كبيراً من الناس ، قد دخل في الإيمان متبعاً السحرة الذين قالوا { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } وقوله { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } معناه : أتتركهم أنت يعبدون رب موسى وهارون ، ويتركون عبادتك وعبادة آلهتك ، فيظهر للناس عجزك وعجزها ، فتكون الطامة الكبرى التي بها بفسد ملكك .
قال السدى : إن فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها ، وسمى نفسه الرب الأعلى .
وقال الحسن إنه كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله ، وهو رب النوع الإنسانى .
وقد قرىء { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } بالنصب والرفع أما النصب فعلى أنه معطوف على { لِيُفْسِدُواْ } وأما الرفع فعلى أنه عطف على { أَتَذَرُ } أو على الاستئناف ، أو على أنه حال بحذف المبتدأ أى : وهو يذرك .
والمتأمل في هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن الملأ من قوم فرعون ، يراه يطفح بأشد ألوان التآمر والتحريض . فهم يخوفونه فقدان الهيبة والسلطان بتحطيم الأوهام التي يستخدمها السلطان ، لذا نراه يرد عليهم بمنطق الطغاة المستكبرين فيقول : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
أى : لا تخافوا ولا ترتاعوا أيها الملأ فإن قوم موسى أهون من ذلك ، وسننزل بهم ما كنا نفعله معهم من قبل وهو تقتيل الأبناء ، وترك النساء أحياء ، وإنا فوقهم غالبون كما كنا ما تغير شىء من حالنا ، فهم الضعفاء ونحن الأقوياء ، وهم الأذلة ونحن الأعزة .
فأنت ترى أن ما قاله الملأ من قوم فرعون هو منطق حاشية السوء في كل عهود الطغيان فهم يرون أن الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبرتهم ، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه أولئك الفاسقون .
وترى أن ما قاله فرعون هو منطق الطغاة المستكبرين دائماً . فهم يلجأون إلى قوتهم المادية ليحموا بها آثامهم ، وشهواتهم ، وسلطانهم القائم على الظلم ، والبطش ، والمنافع الشخصية .
ويبلغ موسى وقومه هذا التهديد والوعيد من فرعون وملئه فماذا قال موسى - عليه السلام - ؟ لقد حكى القرآن عنه أنه لم يحفل بهذا التهديد بل أوصى قومه بالصبر ، ولوح لهم بالنصر .
يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه ، وما أظهروه{[12022]} لموسى ، عليه السلام ، وقومه من الأذى والبغضة : { وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي : لفرعون { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ } أي : أتدعهم ليفسدوا في الأرض ، أي : يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك ، يالله للعجب ! صار{[12023]} هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه ! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ؛ ولهذا قالوا : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } قال بعضهم : " الواو " هنا حالية ، أي : أتذره وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك ؟
وقرأ ذلك أُبيّ بن كعب : " وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك " ، حكاه ابن جرير .
وقال آخرون : هي عاطفة ، أي : لا تدع موسى يصنع هو وقومه من الفساد ما قد أقررتهم{[12024]} عليه وعلى تركه آلهتك .
وقرأ بعضهم : " إلاهتك " أي : عبادتك ، ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد .
وعلى القراءة الأولى قال بعضهم : كان لفرعون إله يعبده . قال الحسن البصري : كان لفرعون إله يعبده في السر . وقال في رواية أخرى : كان له{[12025]} جُمَانة في عنقه معلقة يسجد لها .
وقال السدي في قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } وآلهته ، فيما زعم ابن عباس ، كانت البقر ، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلا جسدا .
فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان بهذا الصنيع ، وقد كان نكل بهم به قبل ولادة موسى ، عليه السلام ، حذرا من وجوده ، فكان خلاف ما رامه وضدّ ما قصده فرعون . وهكذا عومل في صنيعه [ هذا ]{[12026]} أيضا ، إنما أراد قهر بني إسرائيل وإذلالهم ، فجاء الأمر على خلاف ما أراد : نصرهم الله عليه وأذله ، وأرغم أنفه ، وأغرقه وجنوده .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون : أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض ، يقول : كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ، وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ يقول : ويذرك : ويدع خدمتك موسى ، وعبادتك وعبادة آلهتك .
وفي قوله : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وجهان من التأويل : أحدهما أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك ؟ وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل كان النصب في قوله : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لا على العطف به على قوله «ليفسدوا » . والثاني : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه كان نصب : وَيَذَرَكَ على العطف على ليُفْسِدُوا .
والوجه الأوّل أولى الوجهين بالصواب ، وهو أن يكون نصب : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء .
وبعد ، فإن في قراءة أُبيّ بن كعب الذي :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج عن هارون ، قال : في حرف أبيّ بن كعب : وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك .
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف .
وقد روى عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ عطفا بقوله : وَيَذَرَكَ على قوله : أتَذَرُ مُوسَى كأنه وجّه تأويله إلى : أتذرُ موسى وقومه ويذرك وآلهتك ليفسدوا في الأرض ؟ وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها : أتذرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وهو يذرُك وآلهتك ؟ فيكون «يذرُك » مرفوعا على ابتداء الكلام .
وأما قوله : وآلِهَتَكَ فإن قرّاء الأمصار على فتح الألف منها ومدّها ، بمعنى : وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها . وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان له بقرةٌ يعبدوها . وقد رُوى عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها : «وَيَذَرَكَ وإلا هَتَكَ » بكسر الألف ، بمعنى : ويذرك وعبُودتك .
والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليها .
ذكر من قال : كان فرعون يعبُد آلهة على قراءة من قرأ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وآلهته فيما زعم ابن عباس ، كانت البقرة كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلاً وبقرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون جُمَانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السرّ . وقرأ : «وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ » .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون إله يعبده في السرّ .
ذكر من قال معنى ذلك : ويذرك وعبادتك ، على قراءة من قرأ : «وإلاهتك » :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو ، عن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يعَبد .
قال ثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : وعبادتك ، ويقول إنه كان يُعبد ولا يَعبد .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : يترك عبادتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وإلاهَتَكَ » يقول : وعبادتك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : عبادتك .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن حسين ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » وقال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد .
وقد زعم بعضهم : أن من قرأ : «وإلاهَتَكَ » إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ : وآلِهَتَكَ غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا ، كأنه يريد «وَيَذَرَكَ وإلاهَكَ » ثم أنث الإله فقال : «وإلاهتك » .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سُئِل عن الإلاهة فقال : «هي عَلَمة » يريد علما ، فأنث «العلم » ، فكأنه شيء نصب للعبادة يُعبد . وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي :
تَرَوّحْنا منَ اللّعْباءِ عَصْرا ***وأعْجَلْنا الإلاهَةَ أنْ تَئُوبا
يعني بالإلاهة في هذا الموضع : الشمس . وكأن هذا المتأوّل هذا التأويل ، وجّه الإلاهة إذا أدخلت فيها هاء التأنيث ، وهو يريد واحد الاَلهة ، إلى نحو إدخالهم الهاء في وِلْدَتِي وكَوْكَبَتِي ومَاءَتي ، وهو أهْلَة ذاك ، وكما قال الراجز :
يا مُضَرُ الحَمْرَاءِ أنْتِ أُسْرَتِي ***وَأنْتِ مَلْجاتِي وأنْتِ ظَهْرَتي
يريد : ظهري . وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك .
وقوله : قالَ سَنُقَتّلُ أبْناءَهُمْ يقول : قال فرعون : سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل . وَنَسْتَحِيي نساءَهُمْ يقول : ونستبقي إناثهم . وَإنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يقول : وإنا عالون عليهم بالقهر ، يعني بقهر الملك والسلطان . وقد بينا أن كلّ شيء عال بقهر وغلبة على شيء ، فإن العرب تقول : هو فوقه .
{ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك . { ويذرك } عطف على يفسدوا ، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني *** وبينكم المودّة والإخاء
على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك . وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال . وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : { فأصدق وأكن } { وآلهتك } معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب . وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : { أنا ربكم الأعلى } وقرئ " إلاهتك " أي عبادتك . { قال } فرعون { سنُقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم } كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده . وقرأ ابن كثير ونافع " سنقتل " بالتخفيف . { وإنا فوقهم قاهرون } غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا .
جملة : { قال الملأ } عطف على جملة : { قال فرعون آمنتم به } [ الأعراف : 123 ] أو على جملة { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } [ الأعراف : 109 ] . وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته ، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون ، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة ، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه . وأنه لم يَحرْ جَوَاباً . راموا إيقاظ ذهنه ، وإسعارَ حميته ، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون ، ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده ، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة : { قال موسى لقومه استعينوا بالله } .
والاستفهام في قوله : { أتذر موسى } مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم ، وموسى مفعول { تذر } أي تتركه متصرفاً ولا تأخذ على يده .
والكلام على فعل { تذر } تقدم في قوله : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً } في الأنعام ( 70 ) .
وقوم موسى هم من آمن به ، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط .
واللام في قوله : { ليفسدوا } لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللاً بالفساد ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز : شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله ، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضاً عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية ، ومغادرة أرض الاستعباد .
و { الأرض } مملكة فرعون وهي قطر مصر .
وقوله : { ويذَرَك } عطف على { ليفسدوا } فهو داخلي التعليل المجازي ، لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك ، ومعنى تركهم فرعون ، تركهم تأليهه وتعظيمه ، ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها .
والآلهة جمع إله ، ووزنه أفعلة ، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار ، أشهرها ( فتاح ) وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة ( مَنْفيس ) ، ومنها ( رع ) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس ، ومنها ( ازيريس ) و ( إزيس ) و ( هوروس ) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن ، ومنها ( توت ) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة ، ومنها ( أمُون رع ) فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم .
وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل ( إيبيس ) ومثل الجعران وهو الجُعل .
وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته ، وكان فرعون معدوداً ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول ، ففرعون هو المنفذ للدين ، وكان يعد إله مصر ، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه : { فقال أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] { ما علمْتُ لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] . وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء ، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه ، فالإضافة على معنى ( من ) التبعيضية .
وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو جعفر : { سنقتل } بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب .
والاستحياء : مبالغة في الإحياء ، فالسين والتاء فيه للمبالغة ، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه ، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن ، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً .
وجملة : { وإنّا فوقهم قاهرون } اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ، أي : هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر : الغالب بإذلال .
و { فوقهم } مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة { فوقهم } مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ، فهي تمثيلية .