{ فما آمن لموسى } ، لم يصدق موسى مع ما أتاهم به من الآيات ، { إلا ذرية من قومه } ، اختلفوا في الهاء التي في " قومه " ، قيل : هي راجعة إلى موسى ، وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه . قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء وبقي الأبناء . وقال الآخرون : الهاء راجعة إلى فرعون . روى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه ، وماشطته ، وعن ابن عباس رواية أخرى : أنهم كانوا سبعين ألف بيت من القبط من آل فرعون ، وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله . وقيل : هم قوم نجوا من قتل فرعون ، وذلك أن فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة ، من بني إسرائيل إذا ولدت ابنا وهبته لقبطية خوفا من القتل ، فنشؤوا عند القبط ، وأسلموا في اليوم الذي غلبت السحرة . قال الفراء : سموا ذرية ، لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن : الأبناء ، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم . { على خوف من فرعون وملئهم } ، قيل : أراد بفرعون آل فرعون ، أي : على خوف من آل فرعون وملئهم ، كما قال : { واسأل القرية } [ يوسف-82 ] أي : أهل القرية . وقيل : إنما قال : وملئهم وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر يفهم منه هو وأصحابه ، كما يقال قدم الخليفة يراد هو ومن معه . وقيل : أراد ملأ الذرية ، فإن ملأهم كانوا من قوم فرعون . { أن يفتنهم } . أي : يصرفهم عن دينهم ولم يقل يفتنوهم لأنه أخبر عن فرعون وكان قومه على مثل ما كان عليه فرعون ، { وإن فرعون لعال } ، لمتكبر ، { في الأرض وإنه لمن المسرفين } ، المجاوزين الحد ، لأنه كان عبدا فادعى الربوبية .
ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى - عليه السلام - وبين قومه بني إسرائيل ، إثر الحديث عن جابر مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال - تعالى - :
{ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . }
قال الجمل : " قوله - سبحانه - { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . } . لما ذكر الله - تعالى - ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجزات العظيمة الباهرة ، أخبر - سبحانه - أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه . وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه ، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإِيمان به ، واستمرارهم على الكفر والتكذيب ، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . لأن ما جاء به موسى من المعجزات ، كان أمرا عظيما . ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه .
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق ، والتقدير : لقد أتى موسى - عليه السلام - بالمعزات التي تشهد بصدقه ، والتى على رأسها ، أن ألقى عصاه فإذا هي تتبلع ما فعله السحرة ، ومع كل تلك البراهين الدالى على صدقه ، فما آمن به إلا ذرية من قومه .
والمراد بالذرية هنا : العدد القليل من الشباب ، الذين آمنوا بموسى ، بعد أن تخلف عن الإِيمان آباؤهم وأغنياؤهم .
قال الآلوسى : قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } أى : إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا - عليه السلام - الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية : الشبيان لا الأطفال .
والضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود لموسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى :
فما آمن لموسى - عليه السلام - في دعوته إلى وحدانية الله ، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل ، الذين كانوا يعيشون في مصر ، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب ، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم ، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه ، وخوفا من بطشه بهم .
ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود إلى فرعون لا إلى موسى .
فيكون المعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون .
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى : " يخبر الله - تعالى - أنه لم يؤمن بموسى - عليه السلام - مع ما جاء به الآيات والحجج ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب - ، على وجل وخوف منه ومن ملئه .
قال العوفى عن ابن عباس : " إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم : امرأته ، ومؤمن آل فرعون ، وخازنة ، وامرأة خازنه " .
ثم قال : " واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية ، أنها من بني إسرائيل ، لا من قوم فرعون . لعود الضمير على أقرب مذكور .
وفي هذا نظر ، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى . واستبشروا به ، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به .
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل ؟ .
والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - أرجح ، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون ، ومنهم زوجته ، وامرأة خازنه .
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى ، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به ، كقارون والسامرى وغيرهما .
ولأن رجوع الضمير إلى موسى - هو الظاهر المتبادر من الآية ، لأنه أقرب مذكور ، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر .
ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من دعوة الضمير إلى موسى - عليه السلام - ما ملخصه :
وأولى هذه الأقوال عندى بتأويل الآية ، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله { مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .
ولأن في قوله { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .
وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون . . "
وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ . . } حال من كلمة { ذرية } و { على } هنا بمعنى مع . والضمير في قوله { وَمَلَئِهِمْ } يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بني إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى - عليه السلام - .
والمعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى : يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى - عليه السلام .
والضمير في { يفتنهم } يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كنوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء .
وجملة { أَن يَفْتِنَهُمْ } في تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى : على خوف من فرعون فتنته .
وقوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه .
أى : وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغى وادعاء ما ليس له .
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى ، عليه السلام ، مع ما جاء به من الآيات{[14354]} البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب{[14355]} - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه ، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ ، وكانت{[14356]} له سَطْوة ومَهابة ، تخاف رعيته منه خوفا شديدا .
قال العوفي : عن ابن عباس : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } قال : فإن الذرية التي آمنت لموسى ، من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل .
وعن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة( الذرية ) : القليل .
وقال مجاهد في قوله : { إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل . قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ، ومات آباؤهم .
واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية : أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون ، لعود الضمير على أقرب المذكورين .
وفي هذا نظر ؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب{[14357]} وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى ، عليه السلام ، واستبشروا به ، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا . ولما جاء موسى آذاهم فرعون{[14358]} أشد الأذى ، و { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل ؟ .
{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي : وأشراف قومهم أن يفتنهم ، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون ، فإنه كان من قوم موسى ، فبغى عليهم ؛ لكنه كان طاويا{[14359]} إلى فرعون ، متصلا به ، متعلقا بحباله{[14360]} ومن قال : إن الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } عائد إلى فرعون ، وعظم الملك{[14361]} من أجل اتباعه أو بحذف " آل " فرعون ، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد أبعد ، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة .