الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

قوله تعالى : { فَمَآ آمَنَ } : الفاءُ للتعقيب ، وفيها إشعارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر عن الإِلقاء ، بل وقع عقيبه ، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تَعْدِيةِ " آمن " باللام . والضمير في " قومه " فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهرُ عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه ، ولأنه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون لم يكرِّر لفظَه ظاهراً ، بل كان التركيب " على خوفٍ منه " ، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس وغيرُه .

والثاني : أنه يعود على فرعون ، ويُروى عن ابن عباس أيضاً ، ورَجَّح ابنُ عطية هذا ، وضَعَّف الأول فقال : " ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ مُفْرِط ، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود ، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا عليه وتابعوه ، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى ، فكيف تعطي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَ منهم كان الذي آمن ؟ ، فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورةوسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم " .

قوله : { عَلَى خَوْفٍ } حال ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضمير في " وملئهم " فيه أوجه ، أحدُها : أنه عائدٌ على الذرِّيَّة ، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من مَلأَ الذرية ، وهم أشرافُ بني إسرائيل .

الثاني : أنه يعودُ على قومِه بوجهيه ، أي : سواءٌ جَعَلْنا الضمير في " قومه " لموسى أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون .

الثالث : أن يعودَ على فرعون ، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد ؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين ، أحدُهما : أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً ، كما يقول العظيم ، نحن نأمرُ ، وهذا فيه نظرٌ ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك . والثاني : أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه ، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها " . وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنهما أخلصُ منهما ، قال : " إنما جُمع الضميرُ في " مَلَئهم " لأنه إبخار عن جبّار ، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع ، وقيل : لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه ، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه " . قلت : وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ } [ آل عمران : 173 ] ، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود ، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول .

الرابع : أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم ، قاله الفراء ، كما حُذِف في قوله { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه لأحد : " وهذا عندنا غَلَط ، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول : " زيد قاموا " وأنت تريد " غلمان زيد قاموا " . قلت : قوله " لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير " ممنوعٌ ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان : الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر ، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قريةٍ ، ثم قال : " أو هم قائلون " وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه . وقوله : " لجاز زيد قاموا " ليس نظيرَه ، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية .

وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء " ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل ، وقد يقال : ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في " ومَلَئهم " . قلت : يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية ، فإن الخوف تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف . وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنه قيل في " واسأل القرية " إنه حقيقةٌ ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه .

الخامس : أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه ، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه ، بل له حاشية وعساكر وجندٌ ، فكان التقدير : على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً . قلت : حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم قولُه تعالى { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، وقول الآخر :619 كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها *** إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا

أي : ويدُها .

قوله : { أَن يَفْتِنَهُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ " فرعون " ، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره : على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك : " أعجبني زيد علْمُه " . الثاني : أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي : خوفٍ فتنتَه ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14-15 ] . وقولِ الآخر :

2620 فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ *** عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد

الثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام ، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ .

وقرأ الحسن ونبيح " يُفْتِنَهم " بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك .

و " في الأرض " متعلقٌ ب " عالٍ " أي : قاهر فيها أو ظالم كقوله :

2621 فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي *** لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ

أي : لِما تَقْهر . ويجوز أن يكون " في الأرض " متعلقاً بمحذوف لكونه صفة ل " عالٍ " فيكون مرفوع المحل ، ويُرَجِّح الأولَ قولُه : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ } .