اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } الفاءُ للتَّعقيب ، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبهُ ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية " آمن " باللاَّم ، والضَّمير في " قَوْمِهِ " فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى ؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه ؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون ، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً ، بل كان التركيب : " على خوفٍ منه " وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس ، وغيره ، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر ، وخرجُوا معه{[18566]} .

قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير{[18567]} ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد .

قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء{[18568]} .

وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون ؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة ، خوفاً عليه من القتل ، فنشئُوا بين القبط ، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة .

والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون ، ويُروى عن ابن عبَّاس{[18569]} أيضاً ، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط ، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود ، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه ، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى ، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم .

قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل ، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ .

روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط{[18570]} .

قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة ؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء ؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم .

وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ ، ومُؤمنُ آلِ فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأةُ خازنه ، وماشطتها .

واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكُفْر ، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء ؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية .

قوله " عَلى خوفٍ " : حالٌ ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضَّمير في " ومَلئِهِم " فيه أوجه :

أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية ، وهذا قولُ أبي الحسن ، واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل .

الثاني : أنه يعودُ على " قَوْمِهِ " بوجهيه ، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في " قومِهِ " لمُوسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون .

الثالث : أن يعود على فرعون ؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا ؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد ؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :

أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم ، عاد الضَّمير عليه جمعاً ، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم ، لاحتمل ذلك .

الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه ، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها . وقال مكِّي{[18571]} وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنَّهما أخلص منهما ، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم ؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار ، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ ، فرجع الضَّميرُ عليه ، وعلى من معه .

وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود ؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول .

الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون ، ومَلئِهم ، قاله الفرَّاء ، كما حذف في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .

قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ : " وهذا عندنا غلطٌ ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : " زَيْدٌ قاموا " وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا " .

قال شهاب الدِّين{[18572]} : قوله : " لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير " ممنوعٌ ، بل إذا حذف مضافٌ ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمُه وهو الأكثر ، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قرية ، ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : " لجازَ زيد قاموا " ليس نظيره ، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ ، بخلاف الآية .

وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في " ومَلئِهم " . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء ، بالفرق بين { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف .

وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنَّه قيل في { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] إنَّه حقيقةٌ ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية ؛ فتُجِيبه .

الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه ، والدَّليلُ عليه ؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده ، بل له حاشيةٌ ، وعساكرُ ، وجندٌ ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون ، وقومه ، وملئِهِم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً .

قال شهاب الدِّين{[18573]} : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله - تعالى - : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ؛ وقول الآخر : [ الطويل ]

كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا *** إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا{[18574]}

أي : ويدها .

قوله : " أن يفْتنَهُم " أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من " فِرْعَون " ، وهو بدلُ اشتمالٍ ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة ، كقولك : " أعْجَبني زيد علمُهُ " .

الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ ؛ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، وقول الآخر : [ الطويل ]

فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ *** عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ{[18575]}

الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ .

وقرأ الحسن{[18576]} ، ونبيح : " يُفْتِنَهم " بضمِّ الياءِ من " أفتن " وقد تقدَّم ذلك [ النساء : 101 ] .

قوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } أي : مُتكبِّر ، أو ظالمٌ ، أو قاهر ، و " فِي الأرض " متعلِّقٌ ب " عَالٍ " ؛ كقوله : [ الكامل ]

فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي *** لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ{[18577]}

أي : لِمَا تَقْهَر ، ويجوز أن يكون " فِي الأرْضِ " متعلِّقاً بمحذوف ؛ لكونه صفة ل " عَالٍ " فيكون مرفوع المحلِّ ، ويرجح الأول قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ] ثم قال : { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } : المجاوزين الحدَّ ؛ لأنه كان عبداً ، فادَّعى الرُّبُوبيَّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه ، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين .


[18566]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/115-116).
[18567]:انظر المصدر السابق.
[18568]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/592) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/565) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ.
[18569]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/592) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/565) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/364).
[18570]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/364).
[18571]:ينظر: المشكل 1/390.
[18572]:ينظر: الدر المصون 4/62.
[18573]:ينظر: الدر المصون 4/62.
[18574]:تقدم.
[18575]:تقدم.
[18576]:وقرأ بها أيضا جراح. ينظر: المحرر الوجيز 3/137، البحر المحيط 5/183، الدر المصون 4/63.
[18577]:البيت لكعب بن سعد الغنوي أو لعلي بن عدي الغنوي. ينظر: البحر المحيط 5/183 واللسان (علا) والدر المصون 4/63.