قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } الفاءُ للتَّعقيب ، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبهُ ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية " آمن " باللاَّم ، والضَّمير في " قَوْمِهِ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى ؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه ؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون ، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً ، بل كان التركيب : " على خوفٍ منه " وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس ، وغيره ، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر ، وخرجُوا معه{[18566]} .
قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير{[18567]} ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد .
قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء{[18568]} .
وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون ؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة ، خوفاً عليه من القتل ، فنشئُوا بين القبط ، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة .
والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون ، ويُروى عن ابن عبَّاس{[18569]} أيضاً ، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط ، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود ، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه ، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى ، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم .
قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل ، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ .
روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط{[18570]} .
قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة ؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء ؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم .
وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ ، ومُؤمنُ آلِ فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأةُ خازنه ، وماشطتها .
واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكُفْر ، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء ؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية .
قوله " عَلى خوفٍ " : حالٌ ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضَّمير في " ومَلئِهِم " فيه أوجه :
أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية ، وهذا قولُ أبي الحسن ، واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل .
الثاني : أنه يعودُ على " قَوْمِهِ " بوجهيه ، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في " قومِهِ " لمُوسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون .
الثالث : أن يعود على فرعون ؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا ؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد ؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :
أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم ، عاد الضَّمير عليه جمعاً ، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم ، لاحتمل ذلك .
الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه ، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها . وقال مكِّي{[18571]} وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنَّهما أخلص منهما ، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم ؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار ، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ ، فرجع الضَّميرُ عليه ، وعلى من معه .
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود ؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول .
الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون ، ومَلئِهم ، قاله الفرَّاء ، كما حذف في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ : " وهذا عندنا غلطٌ ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : " زَيْدٌ قاموا " وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا " .
قال شهاب الدِّين{[18572]} : قوله : " لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير " ممنوعٌ ، بل إذا حذف مضافٌ ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمُه وهو الأكثر ، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قرية ، ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : " لجازَ زيد قاموا " ليس نظيره ، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ ، بخلاف الآية .
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في " ومَلئِهم " . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء ، بالفرق بين { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف .
وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنَّه قيل في { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] إنَّه حقيقةٌ ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية ؛ فتُجِيبه .
الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه ، والدَّليلُ عليه ؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده ، بل له حاشيةٌ ، وعساكرُ ، وجندٌ ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون ، وقومه ، وملئِهِم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً .
قال شهاب الدِّين{[18573]} : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله - تعالى - : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ؛ وقول الآخر : [ الطويل ]
كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا *** إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا{[18574]}
قوله : " أن يفْتنَهُم " أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من " فِرْعَون " ، وهو بدلُ اشتمالٍ ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة ، كقولك : " أعْجَبني زيد علمُهُ " .
الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ ؛ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، وقول الآخر : [ الطويل ]
فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ *** عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ{[18575]}
الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ .
وقرأ الحسن{[18576]} ، ونبيح : " يُفْتِنَهم " بضمِّ الياءِ من " أفتن " وقد تقدَّم ذلك [ النساء : 101 ] .
قوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } أي : مُتكبِّر ، أو ظالمٌ ، أو قاهر ، و " فِي الأرض " متعلِّقٌ ب " عَالٍ " ؛ كقوله : [ الكامل ]
فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي *** لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ{[18577]}
أي : لِمَا تَقْهَر ، ويجوز أن يكون " فِي الأرْضِ " متعلِّقاً بمحذوف ؛ لكونه صفة ل " عَالٍ " فيكون مرفوع المحلِّ ، ويرجح الأول قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ] ثم قال : { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } : المجاوزين الحدَّ ؛ لأنه كان عبداً ، فادَّعى الرُّبُوبيَّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه ، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.