البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء .

والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وأنه لا يعود على فرعون ، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية ، وهو أقرب مذكور .

ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون ، وكان التركيب على خوف منه .

ومن ملإهم أن يفتنهم ، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم ، كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف .

وقال مجاهد والأعمش : معنى الآية أنّ قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا ، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن .

قال ابن عطية : وهذا قول غير صحيح ، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم ، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية .

وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، وينفيه قوله : فما آمن ، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به ، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضهم ، ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية : إنه القليل ، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكيّ وغيره .

وقالت فرقة : إنما سماهم ذرية لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل ، وإماؤهم من القبط .

رواه عكرمة عن ابن عباس : فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء ، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن .

وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى : ابن عباس قال : وكانوا ستمائة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين نفساً ، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف .

وقيل : الضمير في قومه يعود على فرعون ، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه .

قال ابن عباس أيضاً : والسحرة أيضاً ، فإنهم معدودون في قوم فرعون .

وقال السدي : كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون .

قال ابن عطية : ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد فشت فيهم السوآت ، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط ، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً ، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه ، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به ، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون .

ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم ، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم .

وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى .

ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي : ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى ، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به .

والظاهر عود الضمير في قوله : وملاهم ، على الذرية وقاله الأخفش ، واختاره الطبري أي : أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائداً على موسى ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون على أنفسهم .

ويدل عليه قوله تعالى : أن يفتنهم أي يعذبهم .

وقال ابن عباس : أن يقتلهم .

وقيل : يعود على قومه أي : وملا قوم موسى ، أو قوم فرعون .

وقيل : يعود على المضاف المحذوف تقديره : على خوف من آل فرعون ، قاله الفراء .

كما حذف في ، { واسأل القرية } ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل .

وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم .

وقيل : ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وأجناد ، وكأنه قيل : على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي : ملا فرعون وقومه ، وقاله الفراء أيضاً : وقيل : لما كان ملكاً جباراً أخبر عنه بفعل الجميع .

وقيل : سميت الجماعة بفرعون مثل هود .

وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي : فتنته ، فكون في موضع جر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل ، وإما على أنه في موضع المفعول به ، أي : على خوف لأجل فتنته ، أو على خوف فتنته .

وقرأ الحسن وجراح ونبيح : يفتنهم بضم الياء من أفتن ، ولعال متجر أو باع ظالم ، أو متعال أو قاهر كما قال :

فاعمد لما تعلو فما لك بالذي *** لا تستطيع من الأمور يدان

أي لما تقهر أقوال متقاربة ، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب .

وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية ، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه .