معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

قوله عز وجل : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية . أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر ، وإن كان من عشيرته . قيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة ، إن شاء الله عز وجل . وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : { ولو كانوا آباءهم } يعني : أبا عبيدة ابن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد { أو أبناءهم } يعني : أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، { أو إخوانهم } يعني : مصعب ابن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، { أو عشيرتهم } يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلياً وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عبة . { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة ، وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ، { وأيدهم بروح منه } قواهم بنصر منه . قال الحسن : سمى نصره إياهم روحاً لأن أمرهم يحيا به . وقال السدي : يعني بالإيمان . وقال الربيع : يعني بالقرآن وحجته ، كما قال : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ( الشورى- 52 ) وقيل برحمة منه . وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة لصفات المؤمنين الصادقين فقال : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .

وقوله : { يُوَآدُّونَ } من الموادة بمعنى حصول المودة والمحبة .

أي : لا تجد - أيها الرسول الكريم - قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان ، يوالون ويحبون من حارب دين الله - تعالى - وأعرض عن هدي رسوله .

والمقصود من هذه الآي الكريمة النهى عن موالاة المنافقين وأشبهاهم ، وإنما جاءت بصيغة الخبر ، لأنه أقوى وآكد فى التنفير عن موالاة أعداء الله ، إذ الإتيان بصيغة الخبر تشعر بأن القوم قد امتثلوا لهذا النهي ، وأن الله - سبحانه - قد أخبر عنهم بذلك .

وافتتحت الآية بقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً } لأن هذا الافتتاح يثير شوق السامع لمعرفة هؤلاء القوم .

وقوله : { وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ } تصريح بوجوب ترك هذه الموادة لمن حارب الله ورسوله ، مهما كانت درجة قرابة هذا المحارب .

أي : من شأن المؤمنين الصادقين أن يبتعدوا عن موالاة أعداء الله ورسوله ، ولو كاهن هؤلاء الأعداء{ آبَآءَهُمْ } الذين أتوا إلى الحياة عن طريقهم ، { أَوْ أَبْنَآءَهُمْ } الذين هم قطعة منهم . { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } الذين تربطهم بهم رابطة الدم { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } التي ينتسبون إليها ، وذلك لأن قضية الإيمان يجب أن تقدم كل شىء .

وقدم الآباء لأنهم أول من تجب طاعتهم ، وثنى بالأبناء لأنهم ألصق الناس بهم ، وثلث بالإخوان لأنهم الناصرون لهم ، وختم بالعشيرة لأن التناصر بها يأتى فى نهاية المطاف .

ثم أثنى - سبحانه - على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يوالوا أعداء الله مهما بلغت درجة قرابتهم فقال : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } .

أي : أولئك الذين لا يوادون أعداء الله مهما كانوا ، هم الذين كتب الله - تعالى - الإيمان فى قلوبهم ، فاختلط بها واختلطت به ، فصارت قلوبهم لا تحب إلا من أحب دين الله ، ولا تبغض إلا من أبغضه .

{ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي : وثبتهم وقواهم بنور من عنده - سبحانه - فصاروا بسبب ذلك أشداء على الكفار ، رحماء بينهم .

{ وَيُدْخِلُهُمْ } - سبحانه - يوم القيامة { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } خلوداً أبديا ، { رَضِيَ الله عَنْهُمْ } بسبب طاعتهم له ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } بسبب ثوابه لهم .

{ أولئك } الموصوفون بذلك { حِزْبُ الله } الذى يشرف من ينتسب إليه .

{ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } فلاحا ونجاحا ليس بعدهما فلاح أو نجاح .

وقد ذكروا روايات متعددة فى سبب نزول هذه الآية الكريمة ، منها : أنها نزلت فى أبى عبيدة عامر بن الجراح ، فقد قتل أباه - وكان كافرا - فى غزوة بدر .

والآية الكريمة تصدق على أبى عبيدة وغيره ممن حاربوا أباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم ، عندما استحب هؤلاء الآباء والأبناء الكفر على الإيمان .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، وجوب عدم موالاة الكفار والفساق والمنافقين والمجاهرين بارتكاب المعاصى . . . مهما بلغت درجة قرابتهم ، ومهما كانت منزلتهم .

ومن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندى يدا ولا نعمة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .

إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .

( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) . .

فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين : ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .

( ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) . .

فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين : لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .

( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) . .

فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !

( وأيدهم بروح منه ) . .

وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .

( ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) . .

جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .

( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .

وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .

( أولئك حزب الله ) . .

فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .

( ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .

ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?

وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين : راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان ! !

لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .

ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .

وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !

فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (22)

{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } } .

كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم ، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

ورُويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود ، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها .

وافتتاح الكلام ب { لا تجد قوماً } يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم .

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها . فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم ، من قبيل قولهم : لا أَرَيَنَّك هاهنا ، أي لا تحضر هنا .

ومنه قوله تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] أراد بما لا يكون ، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجوداً ، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة . وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذٍ مكشوفاً والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة . فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستوراً في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر .

والمُوادّة أصلها : حصول المودّة في جانبين . والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة ، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ .

وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله . ويعرف ذلك بشواهد المعاملة ، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يقل الله هنا { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] ، لأن المودة من أحوال القلب فلا تُتَصور معها التقية ، بخلاف قوله : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } إلى قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .

وقولُه : { ولو كانوا آباءهم } إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة .

ثم إن الذي يُحَادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به ، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوةٍ دنيوية ، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [ الممتحنة : 9 ] ولم يرخَّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .

وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شَرّه عن المسلمين ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } [ الممتحنة : 8 ] .

ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } [ الممتحنة : 8 ] وأن لكل منهما حالتها .

ف { لو } وصلية وتقدم بيان معنى { لو } الوصلية عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره .

وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن أهل الإِيمان الكامل لا يوادُّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله بخرق سياج شريعته عمداً والاستخفاف بحرمات الإِسلام ، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبىء عن ضُعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإِعراض عن أدلة الاعتقاد الحق ، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإِسلامي الحق . فعن الثوري أنه قال : كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجَور . وعن مالك : لا تجالِسْ القدرية وعَادِهم في الله لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .

وقال فقهاؤنا : يجوز أو يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة .

وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصفٌ من نوع المعنى ذي الحكم الثابت . وهذا يرجع إلى أنواع من الشبَه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه .

وقد استدل أئمة الأصول على حُجِّيّة الإِجماع بقوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم } [ النساء : 115 ] مع أن مهيع الآية المحْتج بها إنما هو الخروج عن الإِسلام ولكنهم رأوا الخروجَ مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلِّهم فيه شَبه اتّباع غير سبيل المؤمنين .

{ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .

الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم { يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } .

والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقاً وآنفاً ، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذاباً شديداً ولهم عذاب مهين ، وأنهم حزب الشيطان ، وأنهم الخاسرون ، مما يَستشرِف بعده السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك . وهم المؤمنون الذين لا يوادُّون من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

وكتابة الإِيمان في القلوب نظير قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] . وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره ، أي هم المؤمنون حقاً الذين زين الله الإِيمان في قلوبهم فاتّبعوا كمالَه وسلكوا شُعبه .

والتأييد : التقوية والنصر . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وأيدناه بروح القدس } في سورة [ البقرة : 87 ] ، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإِتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه .

والروح هنا : ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره ، وروحٌ من الله : عنايته ولطفه . ومعاني الروح في قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } في سورة [ الإِسراء : 85 ] ، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها .

ورضَى الله عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مِثل الماضي في قوله : { وأيدهم } ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه ، وحاصل في المستقبل بنوال رضى الله عنهم ونوال نعيم الخلود .

وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله : { ويدخلهم جنات } فلأنه الأصل في الاستقبال . وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } .

وقوله : { أولئك حزب الله } إلى آخره كالقول في { أولئك حزب الشيطان } [ المجادلة : 19 ] . وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم . وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإِسلام .

وشتان بين الحزبين . فالخسران لحزب الشيطان ، والفلاح لحزب الله تعالى .