قوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } جعل له شريكاً .
قوله تعالى : { أو كذب بآياته } ، القرآن .
قوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ، نصيبهم أي : حظهم ، مما كتب لهم في اللوح المحفوظ ، واختلفوا فيه : قال الحسن والسدي : ما كتب لهم من العذاب ، وقضي عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون ، قال عطية ، عن ابن عباس : كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود ، قال الله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [ الزمر :60 ] وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني أعمالهم التي عملوها ، وكتب عليهم من خير وشر يجزي عليها . وقال محمد بن كعب القرظي : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال فإذا فنيت .
قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } ، يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه .
قوله تعالى : { قالوا } ، يعني يقول الرسل للكفار .
قوله تعالى : { أين ما كنتم تدعون } ، تعبدون .
قوله تعالى : { من دون الله } ، سؤال تبكيت وتقريع .
قوله تعالى : { قالوا ضلوا عنا } ، بطلوا وذهبوا عنا .
قوله تعالى : { وشهدوا على أنفسهم } ، اعترفوا عند معاينة الموت .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بطريقته التصويرية المعجزة فيقول : { فَمَنْ أَظْلَمُ . . . . } .
أى : با أحد أشد ظلما ممن افترى الكذب على الله ، بأن أحل ما حرمه أو حرم ما أحله ، أو كذب بآياته المنزلة على أنبيائه ، والاستفهام في قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } للإنكار .
ثم بين - سبحانه - عاقبتهم فقال : { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب } . أى : أولئك الذين كذبوا بآيات الله سينالهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من رزق وأجر ، وخير وشر ، والمراد بالكتاب ، كتاب الوحى الذي أنزل على الرسل ، فإنه يتضمن ما أعده الله للمؤمنين من ثواب وما أعده للكافرين من عقاب ، وقيل المراد به اللوح المحفوظ ، أى أولئك ينالهم نصيبهم المكتوب لهم في كتاب المقادير ، وهو : اللوح المحفوظ .
ثم صور القرآن حالهم عند قبض أرواحهم فقال : { حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
أى : أولئك المفترون ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم ، حتى إذا ما انتهت آجالهم وجاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم سألتهم سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، وتزعمون أنها شفعاؤكم عند الله لكى تنقذكم من هذا الموقف العصيب ؟ وهنا يجيب المشركون على الملائكة بقولهم بحسرة وندامة : { ضَلُّواْ عَنَّا } أى : غابوا عنا وصرنا لا ندرى مكانهم ، ولا نرجو منهم خيرا أو نفعا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بعبادتهم لغير الله الواحد القها . }
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار . احتضار الذين افتروا على الله الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به الله ، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والحرص على اليقين والعلم . وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله ، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب :
( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا ؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ، قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته ؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم . فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار :
( قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ ) . .
أين دعاويكم التي افتريتم على الله ؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل ؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة ؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله ؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه :
غابوا عنا وتاهوا ! فلا نحن نعرف لهم مقراً ، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً ! . . فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة ! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها . في مثل هذا الأوان !
( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ) !
هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير ، أي لا أحد أظلم منه ، و { افترى } معناه اختلق ، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر ، فهي أيضاً مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا { والله أمرنا بها } وقوله : { أو كذب بآياته } إشارة إلى جميع الكفرة ، وقوله : { من الكتاب } قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط ، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : قوله : { من الكتاب } يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والضحاك { الكتاب } يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك { من الكتاب } يراد به : من القرآن ، وحظهم فيه أن وجوههم تسود القيامة ، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا ، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا } أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم ، وهذا تأويل جماعة من مجيء الرسل للتوفي ، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم ، وقالت فرقة { رسلنا } يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة ، و { يتوفونهم } معناه يستوفونهم عدداً في السوق إلى جهنم .
قال القاضي أبو محمد : ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله : { نصيبهم من الكتاب } لأن «النصيب » على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة ، وقد قضى مجيء رسل الموت ، وقوله حكاية عن الرسل { أين ما كنتم تدعون } استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزى وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله و { تدعون } معناه تعبدون وتؤملون ، وقولهم { ضلوا } معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا . ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر قوله تعالى حكاية عنهم { والله ربنا ما كنا مشركين } واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا .