البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يَنَالُهُمۡ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوۡنَهُمۡ قَالُوٓاْ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} (37)

{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } لما ذكر المكذّبين ذكر أسوأ حالاً منهم وهو من يفتري الكذب على الله وذكر أيضاً من كذّب بآياته ، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : ما كتب لهم من السعادة والشقاوة ولا يناسب هذا التفسير الجملة التي بعد هذا ، وقال الحسن : ما كتب لهم من العذاب ، وقال الربيع ومحمد بن كعب وابن زيد : ما سبق لهم في أمّ الكتاب ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد أيضاً وقتادة : ما كتب الحفظة في صحائف الناس من الخير والشرّ فيقال : هذا نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي وقال الحكم وأبو صالح ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والخير والشر في الدنيا .

وقال الضحاك : ما كتب لهم من الثّواب والعقاب ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك أيضاً ومجاهد ما كتب لهم من الكفر والمعاصي ، وقال الحسن أيضاً : ما كتب لهم من الضلالة والهدى ، وقال ابن عباس أيضاً : ما كتب لهم من الأعمال .

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك : { من الكتاب } يراد به من القرآن وحظّهم فيه سواد وجوههم يوم القيامة ، وقيل : ما أوجب من حفظ عهودهم إذا أعطوا الجزية .

وقال الحسن والسدّي وأبو صالح : من المقرّر في اللوح المحفوظ وقد تقرر في الشّرع أنّ حظّهم فيه العذاب والسّخط والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها ولذلك جاءت التغيية بعد هذا بحتى وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري ، قال : أي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال .

{ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قَالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا انهم كانوا كافرين } .

تقدّم الكلام على { حتى إذا } في الأوائل الأنعام ، ووقع في التحرير { حتى } هنا ليس بغاية بل هي ابتداء وجر والجملة بعدها في موضع جرّ وهذا وهم بل معناها هنا الغاية والخلاف فيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر والجملة بعدها في موضع جرّ وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجرّ أم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلّق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب قولان : الأوّل لابن درستويه والزّجاج ، والثاني للجمهور وإذا كانت حرف ابتداء فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر :

سريت بهم حتى تكلّ مطيهم *** وحتى الجياد ما يقدن بارسان

وقول الآخر :

فما زالت القتلى تمجّ دماءها *** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

تفيد الغاية لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلى كلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة .

قال الزمخشري : وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام انتهى ، وقال الحوفي وحتى غاية متعلقة بيناً لهم فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصّناعي وأن يريد التعلق المعنوي والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن يأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير أين معبوداتكم من دون الله ؟ فيجيبون بأنهم حادوا عنا وأخذوا طريقاً غير طريقنا أو ضلوا عنا هلكوا واضمحلّوا والرّسل ملك الموت وأعوانه ، و { يتوفونهم } في موضع الحال وكتبت { أينما } متّصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال لأن ما موصولة كهي في { إن ما توعدون لآت } إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون ؟ وقيل : معنى { تدعون } أي تستغيثونهم لقضاء حوائجكم وما ذكرناه من أنّ هذه المحاورة بين الملائكة وهؤلاء تكون وقت الموت وأنّ التوفي هو بقبض الأرواح هو قول المفسرين ، وقالت فرقة منهم الحسن : { الرسل } ملائكة العذاب يوم القيامة والمحاورة في ذلك اليوم ومعنى { يتوفّونهم } يستوفونهم عدداً في السّوق إلى جهنم ونيل النصيب على هذا إنما هو في الآخرة إذ لو كان في الدّنيا لما تحققت الغاية لانقطاع النّيل قبلها بمدد كثيرة ويحتمل { وشهدوا } أن يكون مقطوعاً على { قَالوا } فيكون من جملة جواب السؤال ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ولا تعارض بين هذا وبين قوله { والله ربّنا ما كنا مشركين } لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أو في أوقات وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان ، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودوكم من دون الله معكم { قَالوا ضلوا عنا } .