قوله تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } ، الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، قال ابن عباس : لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية ، قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ، أي : ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم ، فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه : اتق الله ، فإن محمداً يقول الحق ، قال : فأنا أقول الحق ، قال عثمان : فإن محمداً يقول : لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول لا إله إلا الله ، ولكن هذه بنات الله ، يعني الأصنام ، ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك ، والحق نصب خبر كان ، وهو عماد وصلة .
قوله تعالى : { فأمطر علينا حجارةً من السماء } ، كما أمطرتها على قوم لوط .
قوله تعالى : { أو ائتنا بعذاب أليم } ، أي : ببعض ما عذبت به الأمم ، وفيه نزل : { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج :1 ] . وقال عطاء : لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر . قال سعيد ابن جبير : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثةً صبراً من قريش : طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث . وروى أنس رضي الله عنه : أن الذي قاله أبو جهل لعنه الله .
ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركى قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق . فتقول : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير .
وأخرج البخارى عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام .
وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق . . بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاء به محمد بن قرآن وغيره وهو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا . أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا .
قال الجمل : قوله : { هُوَ الحق } قرأ العامة " الحق " بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ { هُوَ } للفصل . وقرأ الأعمش وزيد بن على " الحق " بالرفع ووجوهها ظاهر برفع لفظ " هو " على الابتداء ، والحق خبره ، الجملة خبر الكون .
وفى إطلاقهم { الحق } على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنين .
وأل فيه للعهد : أي الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله .
وقوله : { مِّنَ السمآء } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حِجَارَةً } وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيبا لظالمين .
قال صاحب الكشاف : وهذا أسلوب من الجحود بليغ . يعن إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر . . ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء .
فإن قلت : ما فائدة قوله { مِّنَ السمآء } والأمطار لا تكون إلا منها ؟
قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فامطر علينا السجيل وهى الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل .
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من قومى قومك ، فقد قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحق : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء . . . } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه . . ولكن العناد الجامع الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإِذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .
. وهكذا النفوس عندما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود . وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة بالإِثم . ترى الباطل حقا ، والحق باطلا ، وتؤثر العذاب وهى سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب .
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ؛ وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء ، أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه :
( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وهو دعاء غريب ؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق ، حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق ، وأن يهديها إليه ، دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة ، تأخذها العزة بالإثم ، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب ، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله ، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع{[5311]} ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع { الحق } على أنه خبر { هو } والجملة خبر { كان } ، قال الزّجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز{[5312]} وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقَّ » على أن يكون خبر «كان » ويكون هو فصلاً ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة . و { أمطر } إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله { هذا عارض ممطرنا }{[5313]} لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم { من السماء } مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه .