اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا حِجَارَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (32)

قوله : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } .

نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدَّارِ .

قال ابنُ عباسٍ : لمَّا قصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ : لو شئت لقلتُ مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم .

فقال له عثمانُ بن مظعون : اتق الله فإن محمداً يقول الحقَّ ، قال : وأنا أقول الحق .

قال عثمان : فإنَّ محمداً يقول : لا إله إلاَّ الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله ، يعني : الأصنام .

ثم قال : { اللهم إِن كَانَ هذا } الذي يقوله محمد " هُو الحقَّ من عندكَ " {[17295]} .

فإن قيل : في الآية إشكال من وجهين :

أحدهما : أن قوله { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } الآية . حكاهُ الله عن كلام الكُفَّار ، وهو من جنس نظم القرآن ، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في سورة الإسراء قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات ، وهذا أيضاً كلامُ الكُفَّار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ، فدلَّ على حصول المعارضة .

الوجه الثاني : أنَّ كفار قريش كانُوا معترفين بوجود الإله ، وقدرته ، وكانوا قد سمعوا التَّهديد الكثير من محمد صلى الله عليه وسلم في نزول العذاب ، فلو كان القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً ، لأنهم أرباب الفصاحةِ والبلاغةِ ، ولو عرفوا ذلك لكان أقلّ الأحوال أن يَشُكُّوا في نبوَّة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، ولو كانُوا كذلك لما أقدموا على قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء } ؛ لأن الشَّاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنَّه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة .

فالجواب عن الأول : أنَّ الإتيان بهذا القدر من الكلامِ لا يكفي في حصول المعارضة ؛ لأنَّ هذا القدر كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة .

والجوابُ عن الثَّانِي : هَبْ أنَّه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجزاً إلاَّ أنَّهُ لما كان معجزاً في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال .

قوله " هُو الحقَّ " العامَّةُ على نصب " الحقَّ " وهو خبر الكون ، و " هُوَ " فصل ، وقد تقدَّم الكلام عليه .

وقال الأخفشُ : " هو " زائد ، ومرادُه ما تقدَّم من كونه فصلاً .

وقرأ الأعمش{[17296]} ، وزيدُ بن علي : برفع " الحقَّ " ووجهها ظاهرٌ ، برفع " هُوَ " بالابتداء و " الحق " خبره ، والجملةُ خبرُ الكونِ ؛ كقوله : [ الطويل ]

تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وأنْتَ تَركْتَهَا *** وكُنْتَ عليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ{[17297]}

وهي لغةُ تميم . وقال ابن عطية : ويجوز في العربية رفع " الحقّ " على خبر " هو " والجملة خبر ل " كان " .

قال الزَّجَّاجُ{[17298]} " ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز " ، وقد ظهر من قَرأَ به وهما رجلان جليلان .

قوله : " مِنْ عندِكَ " حال من معنى " الحَقّ " : أي : الثَّابت حال كونه من عندك .

وقوله " مِنَ السَّماءِ " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ متعلقٌٌ بالفعل قبله .

والثاني : أنه صفة ل " حِجَارةً " فيتعلقُ بمحذوفٍ .

وقوله : " مِنَ السَّماءِ " مع أنَّ المطر لا يكون إلاَّ منها ، قال الزمخشريُّ : " كأنه أراد أن يقال : فأمطرْ علينا السِّجِّيلَ ، فوضع حجارة من السماء موضع السِّجِّيل كما يقال : صب عليه مسرودةً من حديد ، تريدُ درعاً " .

قال أبو حيان{[17299]} : " إنَّهُ يريد بذلك التَّأكيد " قال : " كَمَا أنَّ قوله : " من حديد " معناه التأكيد ؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلاَّ من حديدٍ ، كما أنَّ الأمطارَ لا تكونُ إلاَّ من السَّماءِ " .

وقال ابنُ عطيَّة{[17300]} : " قولهم " مِنَ السَّماءِ " مبالغة وإغراق " .

قال أبو حيَّان : " والذي يظهر أنَّ حكمة قولهم : " مِنَ السَّماءِ " هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذكر عليه الصلاة والسلام أنه يأتيه الوحي من جهتها ، أي : إنَّك تذكر أن الوحي يأتيك من السَّماءِ ، فأتِنَا بالعذاب من الجهة التَّي يأتيك الوحي منها ، قالوه استبعاداً له " .

فصل

قال عطاءٌ : " لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر " {[17301]} .

قال سعيدُ بنُ جبيرٍ " قتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثلاثةً من قريشٍ صبراً طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيطٍ ، والنَّضْر بن الحارث{[17302]} " . وروى أنس أن الذي قال هذا الكلام أبُو جُهْلٍ{[17303]} .


[17295]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/245).
[17296]:ينظر: الكشاف 2/216-217، المحرر الوجيز 2/521، البحر المحيط 4/482، الدر المصون 3/415.
[17297]:تقدم.
[17298]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/455.
[17299]:ينظر: البحر المحيط 4/482.
[17300]:ينظر: المحرر الوجيز 2/521.
[17301]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/231) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/328) وعزاه للطبري. وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/245).
[17302]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/230) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/245).
[17303]:أخرجه البخاري (8/158) كتاب التفسير: باب وإذ قالوا الله إن كان هذا هو الحق من عندك... حديث (4648) والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/75) عن أنس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/327-328) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.