قوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا } أي : مترادفين يتبع بعضهم بعضاً غير متواصلين ، لأن بين كل نبيين زماناً طويلاً ، وهي فعلى من المواترة ، قال الأصمعي : يقال واترت الخبر أي أتبعت بعضه بعضاً ، وبين الخبرين مهلة .
واختلف القراء فيه ، فقرأ ابو جعفر ، و ابن كثير ، وأبو عمرو : بالتنوين ، ويعقوب بالألف ، ولا يميله أبو عمرو ، وفي الوقف فيها كالألف في قولهم : رأيت زيداً ، وقرأ الباقون بلا تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة و الكسائي ، وهو مثل قولهم : غضبى وسكرى ، وهو اسم جمع مثل شتى ، وعلى القراءتين التاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : وترى من المواترة والتواتر ، فجعلت الواو تاء ، مثل : التقوى والتكلان . { كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا } بالهلاك ، أي : أهلكنا بعضهم في إثر بعض ، { وجعلناهم أحاديث } أي : سمراً وقصصاً ، يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم ، وهي جمع أحدوثة : وقيل : جمع حديث . قال الأخفش : إنما هو في الشر ، وأما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث وأحدوثة ، إنما يقال صار فلان حديثاً . { { فبعداً لقوم لا يؤمنون* }
ثم بين - سبحانه - على سبيل الإجمال ، أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسلاً آخرين ، متتابعين فى إرسالهم . كل واحد يأتى فى أعقاب أخيه . ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور . فقال - تعالى - : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى . . . } .
ولفظى { تَتْرَى } مصدر كدعوى ، وألفه للتأنيث وأصله : وَتْرى فقلبت الواو تاء ، وهو منصوب على الحال من رسلنا .
أى : ثم أرسلنا بعد ذلك رسلنا متواترين متتابعين واحداً بعد الآخر ، مع فترة ومهلة من الزمان بينهما .
قال القرطبى : ومعنى " تترى " : تتواتر ، ويتبع بعضهم بعضاً ترغيباً وترهيباً . .
قال الأصمعى : واترت كتبى عليه ، أتبعت بعضها بعضاً إلى أن بين كل واحد منها وبين الآهر مهلة . . . وقرأن ابن كثير وأبو عمرو { تَتْرًى } بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء ، كقولك : حمدًا وشكرًا . . .
ثم بين - سبحانه - موقف كل أمة من رسولها فقال : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ . . } .
أى : كلما جاء رسول كل أمة إليها ليبلغها رسالة الله - تعالى - وليدعوها إلى عبادته وحده - سبحانه - كذب أهله هذه الأمة هذا الرسول المرسل إليهم . وأعرضوا عنه وآذوه . . .
قال ابن كثير : " وقوله : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعنى جمهورهم وأكثرهم ، كقوله - تعالى - { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وأضاف - سبحانه - الرسول إلى الأمة ، للإشارة إلى أن كل رسول قد جاء إلى الأمة المرسل إليها . وفى التعبير بقوله : { كُلَّ مَا جَآءَ . . . } إشعار بأنهم قابلوه بالتكذيب . بمجرد مجيئه إليهم ، أى : إنهم بادروه بذلك بدون تريث أو تفكر .
فماذا كانت عاقبتهم ؟ كانت عاقبتهم كما بينها - سبحانه - فى قوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .
أى : فأتبعنا بعضهم بعضاً فى الهلاك والتدمير ، وجعلناهم بسبب تكذيبهم لرسلهم أحاديث يتحدث الناس بها على سبيل التعجيب والتلهى ، ولم يبق بين الناس إلا أخبارهم السيئة .
وذكرهم القبيح { فَبُعْداً } وهلاكاً لقوم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون للهدى .
قال صاحب الكشاف : " وقوله { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أى : أخباراً يسمر بها ، ويتعجب منها . والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة : التى هى مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة . وهى : ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً ، وهو المراد هنا " .
ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون :
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . ثم أرسلنا رسلنا تترى . كلما جاء أمة رسولها كذبوه . فاتبعنا بعضهم بعضا ، وجعلناهم أحاديث . فبعدا لقوم لا يؤمنون . .
هكذا في إجمال ، يلخص تاريخ الدعوة ، ويقرر سنة الله الجارية ، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة ، وموسى وعيسى في أواخرها . . كل قرن يستوفي أجله ويمضي : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) . وكلهم يكذبون : ( كلما جاء أمة رسولها كذبوه ) . وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله : ( فأتبعنا بعضهم بعضا ) . وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون : ( وجعلناهم أحاديث )تتناقلها القرون .
ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب : ( فبعدا لقوم لا يؤمنون ) .
{ ثم أرسلنا رسلنا تترى } متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد ، والتاء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالا ، وأماله حمزة وابن عامر والكسائي . { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم . { فاتبعنا بعضهم بعضا } في الإهلاك . { وجعلناهم أحاديث } لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها ، وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا . { فبعدا لقوم لا يؤمنون } .
الرسل الذين جاءوا من بعدُ ، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب . ومن أرسل قبل موسى ، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله .
والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله : { فأتبعنا بعضهم بعضاً } .
{ وتترى } قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فَعلى مثل دَعوى وسَلوى ، وألفه للتأنيث مثل ذكرى ، فهو ممنوع من الصرف . وأصله : وترى بواو في أوله مشتقاً من الوتر وهو الفرد . وظاهر كلام اللغويين أنه لا فعل له ، أي فرداً فرداً ، أي فرداً بعد فرد فهو نظير مثنى . وأبدلت الواو تاء إبدالاً غير قياسي كما أبدلت في ( تجاه ) للجهة المواجهة وفي ( تَوْلَج ) لكناس الوحش ( وتراث ) للموروث .
ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطّع . ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات . والوتيرة : الفترة عن العمل . وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك . يقال : جاءوا متداركين ، أي متتابعين .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر منوناً وهي لغة كنانة . وهو على القراءتين منصوب على الحال من { رسلنا } .
واعلم أن كلمة { تترى } كتبت في المصاحف كلها بصورة الألف في آخرها على صورة الألف الأصليَّة مع أنها في قراءة الجمهور ألف تأنيث مقصورة وشأن ألف التأنيث المقصورة أن تكتب بصورة الياء مثل تقوى ودعوى ، فلعل كتَّاب المصاحف راعوا كلتا القراءتين فكتبوا الألف بصورتها الأصليَّة لصلوحيَّة نطق القارىء على كلتا القراءتين . على أن أصل الألف أن تكتب بصورتها الأصليَّة ، وأما كتابتها في صورة الياء حيث تكتب كذلك فهو إشارة إلى أصلها أو جواز إمالتها فخولف ذلك في هذه اللفظة لدفع اللبس .
ومعنى الآية : ثم بعد تلك القرون أرسلنا رسلاً ، أي أرسلناهم إلى أمم أخرى ، لأن إرسال الرسول يستلزم وجود أمة وقد صرح به في قوله { كلما جاء أمة رسولُها كذبوه } . والمعنى : كذبه جمهورهم وربما كذبه جميعهم .
وفي حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد . . . " الحديث .
وإتباع بعضهم بعضاً إلحاقهم بهم في الهلاك بقرينة المقام وبقرينة قوله { وجعلناهم أحاديث } ، أي صيَّرناهم أحدوثات يتحدث الناس بما أصابهم . وإنما يتحدث الناس بالشيء الغريب النادر مثله . والأحاديث هنا جمع أحدوثة ، وهي اسم لما يتلهى الناس بالحديث عنه . ووزن الأفعولة يدل على ذلك مثل الأعجوبة والأسطورة .
وهو كناية عن إبادتهم ، فالمعنى : جعلناهم أحاديث بائدين غير مبصَرين .
والقول في { فبعداً لقوم لا يؤمنون } مثل الكلام على { فبعداً للقوم الظالمين } [ المؤمنون : 41 ] ؛ إلا أن الدعاء نيط هنا بوصف أنهم لا يؤمنون ليحصل من مجموع الدعوتين التنبيه على مذمة الكفر وعلى مذمة عدم الإيمان بالرسل تعريضاً بمشركي قريش ، على أنه يشمل كل قوم لا يؤمنون برسل الله لأن النكرة في سياق الدعاء تعم كما في قول الحريري : « يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا » .