اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

قوله : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } في «تَتْرَى » وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب على الحال من «رُسُلنَا » ، يعني : متواترين أي : واحداً بعد واحد ، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه . وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال{[32846]} .

والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : إرسالاً تَتْرَى ، أي : متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال{[32847]} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ، وهي قراءة الشافعي «تَتْرًى » بالتنوين ، ويقفون بالألف ، وباقي السبعة «تَتْرَى » بألف صريحة دون تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى ، ولا يميله أبو عمرو في الوقف{[32848]} ، وهذه هي اللغة المشهورة . فمن نَوّن فله وجهان :

أحدهما : أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله : «تَتْرًى » كقولك : نصرته نَصْراً ؛ ووزنه في قراءتهم «فَعْلاً »{[32849]} . وقد رُدَّ هذا الوجه ، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه ، فيقال : هذا تَتْرٌ ، ورأيتُ تَتْراً ، ومررت بتترٍ ، نحو : هذا نصرٌ ، ورأيت نصراً ، ومررت بنصرٍ ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه ( فَعْلاً ) {[32850]} .

الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر ، كهي في أَرْطَى{[32851]} وَعَلْقَى{[32852]} ، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين{[32853]} وهذا أقرب مما قبله ، ولكنه يلزم منه وجود ألف{[32854]} الإلحاق في المصادر ، وهو نادر{[32855]} ( ومن لم يُنوّن ، فله فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف .

والثاني : أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى ){[32856]} .

الثالث : أنها للتأنيث كدَعْوَى ، وهي واضحة{[32857]} .

فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من التنوين في الوقف .

الثاني : أنها للإلحاق .

الثالث : أنها للتأنيث{[32858]} .

واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و «ذِكْرَى »{[32859]} ، أو اسم جمع ك «أَسْرَى »{[32860]} و «شَتَّى »{[32861]} ؟ كذا قاله أبو حيان{[32862]} . وفيه نظر : إذ المشهور أن «أَسْرَى » و «شَتَّى » جمعا تكسير{[32863]} لا اسما جمع{[32864]} . وتاؤها في الأصل واو{[32865]} لأنها من المواترة{[32866]} ، والوتر{[32867]} ، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تَوْرِيَة »{[32868]} ، وتَوْلَج{[32869]} ، وتَيْقُور{[32870]} ، وتخمة{[32871]} وتراث{[32872]} ، وتجاه{[32873]} فإنه من الوَرْي والولُوج ، والوَقَار ، والوَخَامَة ، والورَاثة ، والوَجه{[32874]} . واختلفوا في مدلولها ، فعن الأصمعي : واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة{[32875]} وقال غيره : هو من المُوَاتَرَة ، وهي التتابع بغير مُهْلَة {[32876]} .

وقال الراغب : والتوَاتُر تَتَابُع الشيء وِتْراً وفُرَادَى ، قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى }{[32877]} . والوَتِيرة : السَّجية والطريقة ، يقال : هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ{[32878]} . والتِّرَةُ : الذَّحْلَ{[32879]} والوَتِيرة{[32880]} : الحاجز بن المنخرين{[32881]} .

قوله : { كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } أي : أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة ، ولذلك قال : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } بالإهلاك {[32882]} .

قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } قيل : هو جمع حديث ، ولكنه شاذ{[32883]} . والمعنى : سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم ، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به{[32884]} .

وقيل : بل هو جمع أُحْدُوثة ، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة ، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً {[32885]} .

وقال الأخفش : لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير{[32886]} وقد شذت العرب في ألفاظ ، فجمعوها على صيغة ( أفَاعيل ) كأباطيل وأقاطيع{[32887]} . وقال الزمخشري : الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم{[32888]} .

وقال أبو حيان : و ( أفاعيل ) ليس من أبنية اسم الجمع ، فإنما ذكره النحاة{[32889]} فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع ، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد{[32890]} ، فأحرى{[32891]} أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا{[32892]} . ثم قال تعالى : { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } وهذا دعاء ، وذم ، وتوبيخ ، وذلك وعيد شديد{[32893]} .


[32846]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/110، البيان 2/185، التبيان 2/955، البحر المحيط 6/308.
[32847]:انظر التبيان 2/955.
[32848]:السبعة (446). الحجة لابن خالويه (257) الكشف 1/178 – 179، 2/128، 129 النشر 2/328، الإتحاف 319.
[32849]:انظر الكشف 2/128، مشكل إعراب القرآن 2/110.
[32850]:انظر البحر المحيط 6/394.
[32851]:الأرطى: بفتح فسكون- شجر ينبت في الرمل، واحدته أرطاة. اللسان (أرط).
[32852]:العلقى: شجر تدوم خضرته في القيظ، ولها أفنان طوال دقاق، وورق لطاف، واختلف في ألفها، فبعضهم يجعلها للتأنيث فلا ينونها، وبعضهم يجعلها للإلحاق بجعفر، وينونها. اللسان (علق).
[32853]:انظر الكشف 2/128، مشكل إعراب القرآن 2/110، البيان 2/185.
[32854]:في الأصل: الألف.
[32855]:قال ابن الأنباري: (فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر وشرحب، وألف للإلحاق قليلة في المصادر، ولهذا جعلها بعضهم بدلا من التنوين) البيان 2/185.
[32856]:ما بين القوسين تكملة من الدر المصون.
[32857]:لأن المصادر كثيرا ما يلحقها ألف التأنيث كالدعوى من دعا، والذكرى من ذكر، فلم ينصرف (تترى) للتأنيث وللزومه. الكشف 2/129، مشكل إعراب القرآن 2/110، البيان 2/185.
[32858]:انظر التبيان 2/955.
[32859]:من قوله تعالى: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
[32860]:من قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67].
[32861]:من قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى} [طه: 53].
[32862]:قال أبو حيان: (وقيل "تترى" اسم جمع كـ "أسرى" و "شتى") البحر المحيط 6/394.
[32863]:في ب: تكسيرا. وهو تحريف.
[32864]:تقدم.
[32865]:في الأصل: أو. وهو تحريف.
[32866]:في ب: المتواترة.
[32867]:انظر الكشف 2/129، مشكل إعراب القرآن 2/110، البيان 2/185، التبيان 2/955، القرطبي 12/125.
[32868]:هي أصل: توراة، فهي مصدر (ورى) – بالتضعيف - قلبت حركة الياء إلى ما قبلها ثم قلبت الياء ألفا على لغة طيئ الذين يقولون: باداة وجاراة، في بادية وجارية فصارت توراة. وتوراة: أصلها ووراة على وزن فوعلة من ورى الزند يري، فأبدل الواو الأولى تاء، لأنه لم تبدل الواو الأولى تاء لأبدلت همزة هروبا من اجتماع واوين في أول الكلمة.
[32869]:التولج: كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه، وأصله: وولج، أبدلت الواو الأولى تاء. اللسان (ولج).
[32870]:التيقور: الوقار، فيعول، وأصله: ويقور، قلبت الواو تاء، قال العجاج: فإن يكن أمسى البلى تيقوري *** ... اللسان (وقر).
[32871]:التخمة: الثقل الذي يصيبك من الطعام. وأصلها: وخمة، قلبت الواو تاء. اللسان (وخم).
[32872]:التراث: المال الموروث، أصله: وراث، قلبت الواو تاء. اللسان (ورث).
[32873]:تقول: قعد فلان تجاه فلان، أي: تلقاءه، وأصله: وجاه قلبت الواو تاء، اللسان (وجه).
[32874]:انظر سر صناعة الإعراب 1/145 – 148، الممتع 1/383 – 387، شرح الشافية 3/80 – 83، 219 – 220.
[32875]:اللسان (وتر)، البحر المحيط 6/393.
[32876]:المرجعان السابقان.
[32877]:المفردات في غريب القرآن (511).
[32878]:اللسان (وتر).
[32879]:الذحل: الثأر، وقيل: طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أتيت إليك، وقيل: هو العداوة والحقد، وجمعة أذحال وذحول، وهو الترة، يقال طلب بذحله، أي: بثأره. اللسان (ذحل، وتر).
[32880]:في الأصل: والوتير.
[32881]:المنخران: ثقبا الأنف. اللسان (نخر، وتر).
[32882]:انظر الفخر الرازي 23/101.
[32883]:انظر شرح الأشموني 4/129، 138.
[32884]:انظر الفخر الرازي 23/101، البحر المحيط 6/307.
[32885]:انظر الكشاف 3/48.
[32886]:لم أجده في معاني القرآن للأخفش. وهو في البحر المحيط 6/407.
[32887]:انظر شرح الشافية 2/204 – 206.
[32888]:الكشاف 3/48.
[32889]:في الأصل: البخاري. وهو تحريف.
[32890]:فـ (عباديد) جمع ليس له واحد من لفظه، وقد قدروا له واحدا وإن لم يستعمل وهو عبدود، شرح الكافية 2/178.
[32891]:في ب: وأجرى. وهو تحريف.
[32892]:البحر المحيط 6/407، وقال الرضي: (وكذا أحاديث النبي – صلى الله تعالى عليه وسلم – في جمع الحديث، فليس جمع الأحدوثة المستعملة، لأنها الشيء الطفيف الرذل، حوشي صلى الله عليه وسلم عن مثله). شرح الكافية 2/179.
[32893]:انظر الفخر الرازي 23/101.