الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

قوله : { تَتْرَى } : فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ " رُسُلَنا " بمعنى متواتِرين أي : واحداً بعد واحدٍ ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي . وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ . والثاني : أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه : إرسالاً تَتْرى أي : متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ " تَتْرَىً " بالتنوين . وباقي السبعةِ " تَتْرَى " بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ . وهذه هي اللغةُ المشهورةُ ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان ، أحدُهما : أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس ، فقوله : " تَتْرَىً " كقولك : نَصَرْتُه نَصْراً . وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً . وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه ، فيُقال : هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو : هذا نَصْرٌ ، ورأيت نصراً ، ومررتُ بنصرٍ . فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً . الثاني : أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين . وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه ، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ ، الثالث : أنها للتأنيثِ كدَعْوى . وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ . الثاني : أنها للإِلحاق . الثالث للتأنيث . واخْتُلف فيها : هل هي مصدرٌ كدَعْوى وذِكْرى ، أو اسمُ جمعٍ كأَسْرى وشتى ، كذا قالهما الشيخ . وفيه نظرٌ ، إذ المشهورُ أنَّ أَسْرَى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ . وفاؤُها في الأصلِ واوٌ ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر ، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه ، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه .

واختلفوا في مَدْلُولِها : فعن الأصمعيِّ : واحداً بعد واحد ، وبينهما مُهْلَة . وقال غيره : هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة . وقال الراغب : " والتواتُرُ : تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى . قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } والوَتِيْرَة : السَّجِيَّةُ والطريقة . يقال : هم على وَتيرةٍ واحدةٍ . والتِرَةُ : الذَّحْلُ . والوَتيرة : الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن .

قوله : { أَحَادِيثَ } قيل : هو جمعُ " حديث " ولكنه شاذٌّ . وقيل : بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة . وقال الأخفش : " لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ . ولا يُقال في الخير . وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع " . وقال الزمخشري : " الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم " . قال الشيخ : " وأَفاعيل ليس من أبنيةِ اسمِ الجمع ، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع ، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى " أحاديث " وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو " حديث " فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا " .