فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين ، وأن شأن أممهم كان واحداً في التكذيب لهم فقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا } والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها بمعنى : أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه ، لا على معنى أنّ إرسال الرسل جميعاً متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعاً ، ومعنى { تتراً } : تتواتر واحداً بعد واحد ويتبع بعضهم بعضاً ، من الوتر وهو الفرد . قال الأصمعي : واترت كتبي عليه : أتبعت بعضها بعضاً إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة . وقال غيره : المتواترة المتتابعة بغير مهلة . قرأ ابن كثير ، وابن عمرو «تترا » بالتنوين على أنه مصدر . قال النحاس : وعلى هذا يجوز «تترى » بكسر التاء الأولى ؛ لأن معنى { ثم أرسلنا } : واترنا ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي متواترين { كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء : التبليغ { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب { وجعلناهم أَحَادِيثَ } الأحاديث جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به الناس كالأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجب الناس منه . قال الأخفش : إنما يقال جعلناهم أحاديث في الشرّ ، ولا يقال في الخير ، كما يقال : صار فلان حديثاً ، أي عبرة ، وكما قال سبحانه في آية أخرى : { فجعلناهم أَحَادِيثَ ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] . قلت : وهذه الكلية غير مسلمة فقد يقال : صار فلان حديثاً حسناً ، ومنه قول ابن دريد في مقصورته :

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسناً لمن روى

{ فَبُعْداً لقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } وصفهم هنا بعدم الإيمان ، وفيما سبق قريباً بالظلم لكون كل من الوصفين صادراً عن كل طائفة من الطائفتين ، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرّد عدم التصديق ، وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي من أشد الظلم وأفظعه .

/خ56