فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأن أممهم كان واحدا في التكذيب لهم فقال :

{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } يعني إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه لا على معنى أن إرسال الرسل جميعا متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعا ومعنى تترا تتواتر واحدا بعد واحد ويتبع بعضهم بعضا من الوتر وهو الفرد ، قال الأصمعي : واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة ، وقال غيره : المتواترة المتتابعة بغير مهلة ، والأول أولى لأن ما كان بدونها ، قيل مداركة ومواصلة ، كما في القاموس لا تترا ، وقرئ تترا بالتنوين على انه مصدر ، قال النحاس : وعلى هذا يجوز تترا بكسر التاء لأن معنى ثم أرسلنا واترنا ، وقرئ بألف من غير تنوين كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث ، أو في موضع الحال أي متواترين .

قال ابن عباس : بعضهم على أثر بعض ، أي غير متواصلين ، لأن بين كل رسولين زمنا طويلا .

{ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء التبليغ { فَأَتْبَعْنَا } الأمم والقرون { بَعْضَهُمْ بَعْضًا } أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي سمرا وقصصا وإخبارا يسمع بها ويتعجب منها ويتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم ، وجمع أحدوثة وهي ما يتحدث به الناس ، كالأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجب الناس منه ، أو جمع حديث على غير قياس ، وفي السمين ولكنه شاذ .

وقال الأخفش : إنما يقال ذلك في الشر ولا يقال في الخير ، كما يقال صار فلان حديثا ، أي عبرة ، وكما قال سبحانه في آية أخرى { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } .

قلت : وهذه الكلية غير مسلمة ، فقد يقال صار فلان حديثا حسنا ، وقد شذت العرب في ألفاظ فجمعوها على صيغة أفاعيل كأباطيل وأقاطيع . وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث . ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع ، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع ، كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد فأحرى أحاديث ، وقد لفظ له بواحد وهو حديث ، فاتضح انه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا .

{ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ } دعاء عليهم { لا يُؤْمِنُونَ } وصفهم هنا بعدم الإيمان ، وفيما سبق قريبا بالظلم لكون كل من الوصفين صادرا عن كل طائفة من الطائفتين ، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرد عدم التصديق ، وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي أشد الظلم وأفظعه ،