قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } . الآية ، قيل : نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين . وقال الآخرون : نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلاً أربعة من المهاجرين ، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش ، وسائرهم من الأنصار .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : سألنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما عن هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . الآية قال : إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :أرواحهم كطير خضر . ويروى في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعةً فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، أنا جسعويه ، أنا صالح بن محمد ، أنا سليمان بن عمرو عن إسماعيل بن أمية عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة ، قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم ، وما يصنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عنه ، فقال الله عز وجل : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) . إلى قوله ( لا يضيع أجر المؤمنين ) .
وسمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي قال : سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال : سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال : سمعت محمد بن إسماعيل البكري قال : سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال : سمعت موسى ابن إبراهيم قال : سمعت طلحة بن خراش قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا جابر ما لي أراك منكسراً ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً ، قال : أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : ما كلم الله تعالى أحداً إلى من وراء حجاب ، وأنه أحيا أباك فكلمه كفاحاً ، قال : يا عبدي تمن علي أعطك ! قال : يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية ، قال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون . فأنزلت فيهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ،
أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا حميد عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يموت ، له عند الله خير ، يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى " . وقال قوم نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة ، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة -وكان سيد بني عامر بن صعصعة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى إليه هدية ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها ، وقال : لا أقبل هدية مشرك ، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك ، ثم عرض عليه الإسلام ، وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين ، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ، ولم يبعد وقال : يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أخشى عليهم أهل نجد . فقال أبو براء : أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء ابن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة ، وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال حرام بن ملحان أنا . فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال حرام بن ملحان : يا أهل بئر معونة إني رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله ، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جبنه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقداً وجواراً ، ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سليمة عصية ورعلاً وذكوان فأجابوا فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى ، فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر فقالا : والله إن لهذا الطير لشأناً ، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة ، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى ؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره ، فقال الأنصاري : الله أكبر ! لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه ، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً . فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره . وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة ، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه ؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة ، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الأعلى بن حماد ، أنا يزيد بن زريع ، أنا سعيد عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن رعلاً وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل ، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب ، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان . قال أنس رضي الله عنه فقرأنا فيهم قرآناً ، ثم إن ذلك رفع ( بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم نسخت فرفع بعدما قرأناه زماناً وأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) الآية . وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء ، وقالوا نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ؟ فأنزل الله تعالى تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم ( ولاتحسبن ) ولا تظنن . ( لذين قتلوا في سبيل الله ) . قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد والآخرون بالتخفيف أمواتا كأموات من لم يقتل في سبيل الله .
قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم } . قيل أحياء في الدين ، وقيل في الذكر ، وقيل لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء ، وقيل لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقيل لأن الشهيد لا يبلى في القبر ، ولا تأكله الأرض . وقال عبيد بن عمير : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من احد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم ، فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه . قوله تعالى : { يرزقون } . من ثمار الجنة وتحفها .
وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ . . } .
قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان أن القتل فى سبيل الله الذى يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر ، بل هو أجل المطالب وأسناها ، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر ، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه . ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه .
فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة ، وتحريض للمؤمنين على القتال ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هى أن الاستشهاد فى سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء .
والخطاب فى قوله " ولا تحسبن " للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .
والحسبان : الظن ، والنهى بلا هنا منصب على هذا الظن ، أى أنهاكم عن أن تظنوا أنهم أموات ، ونون التوكيد فى قوله " ولا تحسبن " لتأكيد هذا النهى .
أى : لا تحسبن أيها الرسول الكريم ، أو أيها المؤمن أن الذين قتلوا فى سبيل الله ، من أجل إعلان كلمته ، لا تحسبنهم أمواتا لا يحسون شيئاً ولا يتلذون ولا يتنعمون ، بل هم أحياء عند ربهم ، يرزقون رز الأحياء ، ويتنعمون بألوان النعم التى أسبغها الله عليهم ، جزاء إخلاصهم وجهادهم وبذلهم أنفسهم فى سبيل الله .
وقوله { الذين } مفعول أول لقوله : { تَحْسَبَنَّ } وقوله { أَمْوَاتاً } مفعوله الثانى وقوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى بل هم أحياء .
وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } يصح أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو ظرفا له لأن المعنى : يحيون عند ربهم .
والمراد بالعندية هنا المجاز عن القرب والإكرام والتشريف ، أى هم أحياء مقربون عنده ، فقد خصهم بالمنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، وليس المراد بها القرب المكانى لاستحالة ذلك فى حق الله - تعالى - .
وقوله { يُرْزَقُونَ } صفة لقوله { أَحْيَاءٌ } أو حال من الضمير فيه أى يحيون مرزوقين .
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تصرح بأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت فى شهداء أحد ، ويدخل فى حكمهم كل شهيد فى سبيل الله ، ومن هذه الأحدايث ما أرخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا يزهدوا فى الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله - تعالى - : " أنا أبلغهم عنكم . قال : فأنزل الله هؤلاء الآيات { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . إلخ الآيات " .
وأخرج الترمذى وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا جابر مالى أراك منكساً مهتما " ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبى - فى أحد - وترك عيالا وعليه دين . فقال : ألا أبشرك بما لقى الله - عز وجل - به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً - أى مواجهة ليس بينهما حجاب - وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب ، فقال له يا عبدى تمن أعطك . قال يا رب فردنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال الرب - تعالى - إنه قد سبق منى أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائى فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . الآية " .
قال القرطبى - بعد أن ساق هذين الحديثين وغيرهما - ما ملخصه : " فقد أخبر الله - تعالى - فى هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء فى الجنة يرزقون . والذى عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققه . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح فى قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذبون . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم فى حكم الله مستحقون للتنعم فى الجنة . وقال آخرون أرواحهم فى أجواف طير خضر وأنهم يزرقون فى الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس - الذى سقناه قبل قليل - نص يرفع الخلاف " .
والذى تطمئن إليه النفس : أن الآية الكريمة تنبه على أن للشهداء مزية خاصة تجعلهم يفضلون الموتى المعروفين لدى الناس ، وهى أنهم فى حياة سارة ، ونعيم لذيذ ، ورزق حسن عند ربهم . وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم : أموات ، وإن كان المعنى اللغوى للموت - بمعنى مفارقة الروح للجسد فى ظاهر الأمر - حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى .
إلا أن الحياة البرزخية التى أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله - تعالى - ولا ندرك حقيقتها ، إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى ، فقد قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى ولكن لا تحسون وال تدركون حال هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله بمشاعركم وحواسكم ، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعمل بها إلا بالوحى .
وبعد أن تستريح القلوب ، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون ، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور ، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير . . ثم على حقيقة الأجل المكتوب ، والموت المقدور ، الذي لا يؤجله قعود ، ولا يقدمه خروج ، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير . .
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى . . حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها . . حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون ؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها ، فهم متأثرون بها ، مؤثرون فيها ، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة ، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح ، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة ، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش ، متوكلة على الله وحده ، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول ، من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) . .
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل ، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) فقال يتحداهم : قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء ، لهم كل خصائص الأحياء . فهم " يرزقون " عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء : من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث ، فوق ما نالهم من فضل الله ، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين ، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها ، وهي موصولة لا تنقطع ؛ فليس الموت خاتمة المطاف ؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة والموت ، وتصورهم لما هنا وما هناك .
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله ، وفارقوا هذه الحياة ، وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم " أحياء " . . " عند ربهم " . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات ، وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم " يرزقون " . .
ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء ، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة ، وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ؛ وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا ، يقتلون ، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم : قتلوا في سبيل الله ؛ وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ؛ واتصلت أرواحهم بالله ، فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك ، فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق ، أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك ، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده ، وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . .
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد . وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا . والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة . وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين . { بل أحياء } أي بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه . { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء .
وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن » بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن » بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا » ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا » بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : { بل أحياء } مقدمة قوله : { يرزقون } إذ لا يرزق إلا الحي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياءٌ » بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياءً » بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة .
قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله { عند ربهم } فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن { عند } تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً{[3704]} ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ) {[3705]} .
قال القاضي رحمه الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه السلام : ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضاً فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه الفراء في إصابة العلقة ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون »{[3707]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : «ألا أبشرك يا جابر ؟ » قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : «إن أباك حيث أصيب - بأحد - أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى »{[3708]} ، وقال قتادة رحمه الله : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا -بأحد- فنزلت هذه الآية{[3709]} وقال محمد بن قيس بن مخرمة{[3710]} في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تعالى : أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآيات ){[3711]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني{[3712]} وقوله تعالى : { فرحين } نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل » في هذه الآية : التنعيم المذكور .
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن .
والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قُتِلوا بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً .
وقوله : { بل أحياء } للإضراب عن قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة بالرفع ، وقرىء بالنصب على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله : { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق .