الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

قوله : ( وَلاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) [ 169-170 ] .

معناها : ولا تظنن أن من قتل بأحد من أصحابكم أمواتاً لا يلتذون ، ولا( {[11189]} ) يحسون شيئاً بل هم أحياء بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بثوابه وعطائه .

وقال ابن عباس رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش معلقة يجاوب بعضها بعضاً بصوت لم تسمع الخلائق مثله يقولون : ليت إخواننا الذين خلفنا من بعدنا عملوا مثل الذي عملنا ، فيسارعوا إلى مثل الذي سارعنا فيه ، فإنا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا ، وأرضانا ، فوعدهم الله عز وجل ليخبرن نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ، فيخبرهم فأنزل الله ( وَلاَ تَحْسِبَنَّ ) الآية( {[11190]} ) .

وقيل( {[11191]} ) : إنهم لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنعن الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى : أنا أبلغكم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات .

قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما وكان قد قتل أبوه عبد الله بأحد : " يا جابر ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله فقال : ما تحب يا عبد الله بن عمر( {[11192]} ) أن أفعل بك ؟ فقال : يا رب أحب أن تردني في الدنيا ، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرة( {[11193]} ) " . ولما أتى جابر بن عبد الله رضيه الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتحزن على رجل نظر الله إليه كفاحاً( {[11194]} ) ؟ ثم عاد فأقعده بين يديه فقال له : سلني ما شئت ؟ فقال : أسألك يا رب أن تعيدني إلى الدنيا حتى أقاتل في سبيلك فأقتل ، قالها ثلاثاً ، فقال له الله إني قضيت على نفسي ألا أرد خليقة قبضتها إلى الدنيا فقال أبو جابر : يا رب ، فمن يبلغ قومي ما صنعت بي فقال الله عز وجل : أنا أبلغ قومك ، فأنزل الله عز وجل ( وَلاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا ) الآية( {[11195]} ) .

ودفن عبد الله بن جابر يوم( {[11196]} ) أحد مع عمرو بن الجموح( {[11197]} ) بقبر واحد ، فروي أنهما أخرجا بعد خمسين سنة ، فإذا هما وطاب لم ينثنوا( {[11198]} ) ولم يتغيروا ، ويد عبد الله على جرحه في وجهه إذا نزعت يده على وجهه يشخب( {[11199]} ) الجرح دماً ، وإذا تركت رجعت إلى الجرح ، فحبست الدم ، ووجد عمرو بن الجموح ويده على رأسه إذا نزعت يشخب الجرح دماً ، وإذا تركت رجعت على الجرح . قال( {[11200]} ) ابن مسعود رضي الله عنه : " أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة في أيتها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال : بينما هم كذلك اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : سلوني ما شئتم ؟ فقالوا : يا ربنا ماذا نسألك " ونحن في الجنة نسرح في أيها شئنا ، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من [ غير ] أن( {[11201]} ) يسألوا قالوا : نسألك " أن( {[11202]} ) ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا حتى نقتل في سبيلك . فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا ، تركوا " ( {[11203]} ) .

وقال قتادة : قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد ، فأنزل الله عز وجل ( وَلاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا ) الآية( {[11204]} ) .

قال الضحاك : [ كان ]( {[11205]} ) المسلمون يسألون الله عز وجل يوماً( {[11206]} ) كيوم بدر ، فيبلون فيه خيراً ، ويرزقون فيه الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم( {[11207]} ) الله عز وجل في قوله : ( وَلاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا ) الآيات( {[11208]} ) .

قيل معناه : ( أَمْوَاتاً ) أي : في دينهم بل هم أحياء كما قال : ( أَوَمَن كَانَ مَيِّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( {[11209]} ) .

وروي : أن عبد الله بن عمرو أبا جابر رضي الله عنهما قال لابنه جابر يوم أحد : يا بني كن مع أخواتك( {[11210]} ) ، -وكن تسعاً- فلا ندري ما يكون ، فإن رزقت الشهادة كنت أنت معهن وإن سلمت رجوت أن يثيبك الله عز وجل من حضر ، واستشهد رحمه الله بأحد ،


[11189]:- (ج): لا يتلذذون، (د): لا يتلذون.
[11190]:- أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز 1/467، وأبو داود في كتاب الجهاد 3/15، وانظر: أسباب النزول 73 ولباب النقول 60.
[11191]:- هو تتمة للحديث الذي قبله انظر: المصدر السابق.
[11192]:- كذا في جميع النسخ وهو خطأ صوابه عمرو.
[11193]:- أخرجه ابن ماجه في: باب فيما أنكرته الجهمية 1/68، وأحمد في المسند 1/266.
[11194]:- كفاحاً: مواجهة. انظر: اللسان (كفح) 2/573 وتفسير ابن كثير 1/428.
[11195]:- أخرجه ابن ماجه 1/68، والترمذي في أبواب التفسير 4/298.
[11196]:- هو عبد الله بن عمرو وليس عبد الله بن جابر.
[11197]:- عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري توفي 3 هـ هو آخر الأنصار إسلاماً. صفة الصفوة 1/265 وأسد الغابة 3/103 والإصابة 2/522.
[11198]:- (أ): لن ينتبوا.
[11199]:- (ج): نزعت يده يشخب.
[11200]:- انظر: جامع البيان 4/171، والدر المنثور 2/373.
[11201]:- زيادة يقتضيها السياق.
[11202]:- ساقط من (ج).
[11203]:- انظر: كتاب المغازي 1/326، وسنن الترمذي 4/299.
[11204]:- انظر: جامع البيان 4/172.
[11205]:- ساقط من (أ).
[11206]:- (أ): يوم وهو خطأ.
[11207]:- (ج): ذكره.
[11208]:- انظر: جامع البيان 4/173.
[11209]:- الأنعام آية 122.
[11210]:- (د): إخوانك.