الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

أخْبَرَ سبحانه عن الشهداءِ ، أنهم في الجنَّة أحياءٌ يرزقُونَ ، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنَّه قال : ( إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ ، فَيَقُولُ : يَا عِبَادِي ، مَا تَشْتَهُونَ ، فَأَزِيدَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا ، لاَ فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَنَا ، هَذِهِ الجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ ، لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إلَى الدُّنْيَا ، فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ ، فَنُقْتَلُ مَرَّةً أخرى ، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : ( قَدْ سَبَقَ أَنَّكُمْ لاَ تُرَدُّونَ ) ، والأحاديثُ في فَضْل الشُّهَداء كثيرةٌ .

قال الفَخْر : والرواياتُ في هذا البابِ كأنَّها بلَغَتْ حدَّ التواتر ، ثم قَالَ : قال بعْضُ المفسِّرين : أرواحُ الشُّهَدَاءِ أحياءٌ ، وهي تركَعُ وتَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ إلى يَوْمِ القِيامةِ ، اه .

والعقيدةُ أنَّ الأرواحَ كلَّها أحياء ، لا فرق بَيْن الشهداءِ وغيرهم في ذلك ، إلاَّ ما خَصَّص اللَّه به الشُّهداءَ مِنْ زيادَةِ المَزِيَّة والحياةِ الَّتِي ليْسَتْ بمكيَّفة ، وفي «صحيح مسْلِمٍ » ، عن مَسْرُوقٍ ، قال : سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ }[ آل عمران :169 ] فقال : أَمَّا أَنَا ، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَعْنِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم : ( أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ . . . ) الحديثَ إلى آخره ، اه .

ومن الآثار الصحيحةِ الدالَّة على فَضْلِ الشُّهداءِ ما رواه مالكٌ في «الموطَّأ » ، أنه بلَغَهُ أنَّ عمرو بْنَ الجَمُوحِ ، وعبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأنصارِيَّيْنِ ثُمَّ السُّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قبرهما ، وكان قَبْرُهما ممَّا يَلِي السَّيْلَ ، وكانا في قَبْرٍ واحدٍ ، وهما مِمَّن استشهد يَوْمَ أُحُدٍ ، فحفر عنهما ليغيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا ، فَوُجِدَا لم يُغَيَّرا ، كأنما ماتا بالأمْسِ ، وكان أحدُهُما قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ على جُرْحِهِ ، فَدُفِنَ ، وهو كذلك ، فَأُمِيطَتْ يده عَنْ جُرْحِهِ ، ثم أرْسِلَتْ ، فَرَجَعَتْ ، كما كانَتْ ، وكان بَيْنَ أُحُدٍ ، وبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وأربعون سنَةً ) ، قال أبو عمر في «التمهيد » : حديثُ مالكٍ هذا يتَّصلُ من وجوهٍ صحاحٍ بمعنى واحدٍ متقاربٍ ، وعبد اللَّه بن عمرو هذا هو والدُ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ ، وعَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ هو ابنُ عَمِّه ، ثم أسند أبو عمر ، عن جابرِ بنِ عبْدِ اللَّهِ ، قال : لما أراد معاويةُ أنْ يُجْرِيَ العَيْنَ بأُحُدٍ ، نُودِيَ بالمدينةِ : مَنْ كان له قتيلٌ ، فليأت قتيله ، قال جابرٌ : فأتيناهم ، فأخرجْنَاهم رطَاباً يَتَثَنَّوْنَ ، فأصابَتِ المِسْحَاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فانفطرت دَماً ، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ : " لاَ يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكَرٌ أَبداً " ، وفي رواية : «فاستخرجهم يعني : معاويةَ ، بعد سِتٍّ وأربعين سنَةً لَيِّنَةً أجسادُهم ، تتثنى أطرافهم ) ، قال أبو عمر : الذي أصابَتِ المِسْحَاةُ أصبُعَهُ هو حمزةُ ( رضي اللَّه عنه ) .