الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ } : مفعول أول ، و " أمواتاً " مفعولٌ ثان ، والفاعلُ : إمَّا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في نظائره .

وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه " يَحْسَبَنَّ " بياء الغيبة . وفي الفاعلِ وجهان ، أحدهما : أنه مضمرٌ : إمَّا ضميرُ الرسول ، أو ضمير مَنْ يَصْلُح للحُسْبان أَيِّ حاسبٍ . والثاني : قاله الزمخشري وهو أن يكون " الذين قُتِلوا " قالِ : " ويجوزُ أَنْ يكون " الذين قُتِلوا " فاعلاً ، والتقدير : ولا يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . فإنْ قلت : كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول ؟ قلت : هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله : " بل أحياءٌ " أي : هم أحياءٌ ، لدلالة الكلام عليهما .

ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره ، وذلك لا يجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ ، وعدَّ باب : رُبَّه رجلاً ، ونِعْم رجلاً زيدٌ ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه ، والبدلُ على خلاف فيه ، وضمير الأمر . قال : " وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [ الظاهر ] المفسِّر خبراً ، وبأنّ حَذْفَ أحد مفعولي " ظن " اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً ، نَصَّ عليه الفارسي ، ومَنَعه ابن ملكون البتة " .

وهذا من تَحَمُّلاته عليه . أمَّا قولُه " يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره " فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمَّا أراد أن يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بلفظ " أنفسهم " المنصوبةِ وهي المفعول الأول ، وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفوعةٌ تأكيدٌ للضمير في " قُتلوا " ، ولم ينتبه أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً . وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك ، وما عليه من ابنِ مَلْكون ؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو وغيرُه إلى حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً . وتقدَّم الكلام على مادة " حَسِب " ولغاتِها وقراءاتها .

وقرأ ابن عامر : " قُتِّلوا " بالتشديد ، وهشام وحده في " لو أطاعونا ما قُتِّلوا " ، والباقون بالتخفيف . فالتشديد للتكثير ، والتخفيف صالح لذلك .

وقرأ الجمهور " أحياءٌ " رفعاً على " بل هم أحياء " وقرأ ابن أبي عبلة : " أحياءً " وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين ، أحدهما : أن تكون عطفاً على " امواتاً " قال : " كما تقول : " ظننت زيداً قائماً بل قاعداً " . والثاني : وإليه ذهب الزمخشري أيضاً أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره : بل أحسَبُهم أحياءً " . وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج ، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في " الإِغفال " قال : " لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة ، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ له إلا فعلُ المحسبة ، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة : اعتقِدْهم أو اجْعَلْهم ، وذلك ضعيفٌ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر " انتهى .

وهذا تحاملٌ من أبي عليّ . أمَّا قوله : " إنَّ الأمر تعيَّن " يعني أنَّ كونَهم أحياءً أمرٌ متيقن ، فكيف يُقال فيه : " أَحْسَبُهم " بفعل يقتضي الشك ؟ وهذا غيرُ لازم لأنَّ " حَسِبَ " قد تأتي لليقين . قال :

حَسِبْتُ التُّقَى والجودَ خيرَ تجارةٍ *** رَباحاً إذا ما المرءُ أَصبح ثاقِلا

وقال آخر :

شهدْتِ وفاتوني وكنتُ حَسِبْتُني *** فقيراً إلى أَنْ يَشْهدوا وتَغِيبي

ف " حَسِب " في هذين البيتين لليقين ، لأنَّ المعنى على ذلك ، وقوله : " وذلك ضعيف " يعني من حيث عدمُ الدلالةِ اللفظيةِ ، وليس كذلك ، بل إذا أَرْشَد المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءٌ لدلالة المعنى عليه من غير ضَعْف ، وإنْ كان دلالةُ اللفظِ أحسنَ . وأمَّا تقديرُه هو " أو اجْعَلْهم " قال الشيخ : " هذا لا يَصِحُّ البتة سواء جَعَلْتَ " أجْعَلْهم " بمعنى : " اخْلُقْهم أو صَيِّرهم أو سَمِّهم أو الْقَهُمْ " .

قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل " أحياءٌ " على قراءة الجمهور . الثاني : أن يكونَ ظرفاً ل " أحياء " لأنَّ المعنى : يَحْيَوْن عند ربِّهم . الثالث : أن يكونَ ظرفاً ل " يُرْزقون " أي : يقعُ رِزْقُهم في هذا المكانِ الشريف . الرابع : أن يكون صفةً ل " أحياء " ، فيكونَ في محلِّ رفعٍ على قراءةِ الجمهورِ ونصبٍ على قراءة ابن أبي عبلة . الخامس : أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " أحياء " والمرادُ بالعندية المجازُ عن قربهم بالتكرمة . قال ابن عطية : " هو على حَذْفِ مضاف إي : عند كرامةِ ربهم " ولا حاجةَ إليه ، لأنَّ الأولَ أليق .

قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ خبراً ثالثاً لأحياء ، أو ثانياً إذا لم تَجْعَلِ الظرفَ خبراً . الثاني : أنه صفةٌ ل " أحياء " بالاعتبارين المتقدمين ، فإِنْ أعربنا الظرفَ وصفاً أيضاً فيكونُ هذا جاءَ على الأحسنِ ، وهو أنه إذا وُصِف بظرفٍ وجملةٍ فالأحسنُ تقديمُ الظرفِ وعديلِه لأنه أقربُ إلى المفرد . الثالث : أنه حالٌ من الضمير في " أحياء " أي : يَحْيَون مرزوقين . والرابع : أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الظرف ، والعاملُ فيه في الحقيقة العاملُ في الظرف . قال أبو البقاء في هذا الوجه : " ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الظرفِ إذا جَعَلْتَه صفةً " أي : إذا جَعَلْت الظرف ، وليس ذلك مختصاً بجَعْلِه صفةً فقط ، بل لو جَعَلْتَه حالاً جاز ذلك أيضاً ، وهذه تُسَمَّى الحالَ المتداخلة ، ولو جَعَلْتَه خبراً كان كذلك .