فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

لما بين الله - سبحانه - أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق ، والكاذب من الصادق ، بين ههنا أن من لم ينهزم ، وقتل فله هذه الكرامة ، والنعمة ، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ، لا مما يخاف ، ويحذر ، كما قالوا من حكى الله عنهم : { لوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } [ آل عمران : 156 ] وقالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عمران : 168 ] فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد ، وقرئ بالياء التحتية ، أي : لا يحسبن حاسب .

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم ؟ فقيل : في شهداء أحد ، وقيل : في شهداء بدر ، وقيل : في شهداء بئر معونة . وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . ومعنى الآية عند الجمهور : أنهم أحياء حياة محققة ثم اختلفوا ، فمنهم من يقول : أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم ، فيتنعمون . وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة ، أي : يجدون ريحها ، وليسوا فيها ، وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية ، والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة ، والصحيح الأوّل ، ولا موجب للمصير إلى المجاز . وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر ، وأنهم في الجنة يرزقون ، ويأكلون ، ويتمتعون .

وقوله : { الذين قَتَلُوا } هو : المفعول الأوّل . والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كل أحد ، كما سبق ، وقيل : يجوز أن يكون الموصول هو : فاعل الفعل ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي : لا تحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح ، والجلاء . وقوله : { بَلْ أَحْيَاء } خبر مبتدأ محذوف ، أي : بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على تقدير الفعل ، أي : بل أحسبهم أحياء . وقوله : { عِندَ رَبّهِمْ } إما خبر ثان ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على الحال ، وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : عند كرامة ربهم . قال سيبويه : هذه عندية الكرامة لا عندية القرب . وقوله : { يُرْزَقُونَ } يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله : { عِندَ رَبّهِمْ } والمراد بالرزق هنا : هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور ، كما سلف ، وعند من عدا الجمهور المراد به : الثناء الجميل ، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى ، وحملها على مجازات بعيدة ، لا لسبب يقتضي ذلك .

/خ175