فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) لما بين الله سبحانه ان ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب ، بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة ، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ، لا مما يخاف و يحذر كما قال من حكى الله عنهم ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) وقالوا لو أطاعونا ما قتلوا . فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل أحد .

وقرئ بالياء التحتية أي لا يحسبن حاسب .

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم فقيل شهداء أحد وقيل شهداء بدر ، وقيل شهداء بئر معونة ، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ومعنى الآية عند الجمهور انهم أحياء حياة محققة ، ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنها ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون . وقال مجاهد :يرزقون من ثمر الجنة أي يجدون ريحها وليسوا فيها .

وذهب من عدا الجمهور إلى انها حياة مجازية ، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للنعم في الجنة ، والصحيح الأول ولا موجب للمصير إلى المجاز .

وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر ، وأنهم في الجنة يرزقون ويأكلون ويتمتعون ، فالطيور للأرواح كالهوادج للجالسين فيها ، وبهذا قد استدل من قال ان الحياة للروح فقط ، وقيل إن الحياة للروح والجسد معا ، واستدل له بقوله ( عند ربهم يرزقون ) الخ .

وعلى الأول وجه امتيازهم من غيرهم أن أرواحهم تدخل الجنة من وقت خروجها من أجسادهم ، وأرواح بقية المؤمنين لا تدخل إلا مع أجسادها يوم القيامة ، والامتياز على الثاني ظاهر .

وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه ، وعن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد وحمزة منهم .

وأخرج عبد بن حميد وأبو داود جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، وفي لفظ قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآيات ( ولا تحسبن الذين قتلوا ) الآية وما بعدها{[385]} .

وقد روي من وجوه كثيرة ان سبب نزول الآية قتلى أحد ، وعن أنس أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة ، وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد في سبيل الله .

وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ، وثبت في فصل الشهداء ما يطول تعداده ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث{[386]} .

وقوله ( الذين قتلوا ) هو المفعول الأول ، والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم أوكل احد كما سبق . وقيل معناها لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء .

قيل وفي الكلام حذف والتقدير عند كرامة ربهم ، قال سيبويه هذه عندية الكرامة لا عندية القرب ، والمراد بالرزق هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور كما سلف وعند من عدا الجمهور المراد به الثناء الجميل .

ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة لا بسبب يقتضي ذلك .

وقد تعلق بهذا من يقول بالتناسخ من المبتدعة ، ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة ، ويزعمون ان هذا هو الثواب والعقاب ؟وهذا ضلال مبين ، وقول ليس عليه أثارة من علم لما فيه من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار والأحاديث الصحيحة تدفعه وترده .


[385]:المستدرك –كتاب التفسير 2/297.
[386]:اخرجه الامام احمد 2388 وابو داود 2389 والطبري 7/385 والحاكم 2/297 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.