قوله تعالى : { فانقلبوا } . فانصرفوا .
قوله تعالى : { بنعمة من الله } . بعافية لم يلقوا عدواً .
قوله تعالى : { وفضل } . تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق .
قوله تعالى : { لم يمسسهم سوء } . لم يصبهم أذى ولا مكروه .
قوله تعالى : { واتبعوا رضوان الله } . في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا هل يكون هذا غزواً فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم .
ثم حكى - سبحانه - ما تم لهؤلاء المجاهدين الذين خرجوا للقاء أعدائهم من عاقبة حسنة وعود حميد فقال - تعالى - : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
فالفاء فى قوله { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } للتعقيب ، وهى معطوفة على مقدر دل عليه السياق .
ومعنى { انقلبوا } عادوا ورجعوا .
والنعمة : هى العطاء الذى ينفع صاحبه . والفضل : الزيادة فى العطاء والنعمة .
والمعنى : أن هؤلاء المجاهدين الصادقين خرجوا للقاء أعدائهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة فلم يجدوهم ، فرجعوا إلى ديارهم مصحوبين { بِنِعْمَةٍ } عظيمة { مِّنَ الله } - تعالى - ، إذ خذل أعداءهم ، وسملهم من شرورهم ، ومصحوبين بفضل جليل منه - سبحانه - حيث أغدق عليهم ربحا وفيرا فى تجارتهم ، وأجراً جزيلا بسبب قوة إيمانهم ، وإخلاصهم فى دينهم .
قال الآلوسى : " روى البيهقى عن ابن عباس أن عيراً مرت فى أيام الموسم - أى موسم بدر - فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل " .
وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى غزوة بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم ، فأصابوا تجارة - فربحوا بها " .
وقوله { بِنِعْمَةٍ } فى موضع الحال من الضمير { فانقلبوا } فتكون الباء للملابسة أو للمصاحبة فكأنه قيل : فانقلبوا متلبسين بنعمة أو مصاحبين لها .
وقوله { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف صفة لنعمة ، وهو مؤكد لفخامتها وأنها نعمة جزيلة لا يقدر قدرها .
وقوله { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أى لم يصبهم أى أذى أو مكروه عند خروجهم وعودتهم .
والجملة فى موضع الحال من فاعل { انقلبوا } أى رجعوا منعمين مبرئين من السوء والأذى .
وقوله { واتبعوا رِضْوَانَ الله } معطوف على قوله { فانقلبوا } .
أى اتبعوا ما يرضى الله ويوصلهم إلى مثوبته ورحمته ، باستجابتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم وخروجهم للقاء أعدائهم بإيمان عميق ، وعزم وثيق .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أخبر عن هؤلاء المجاهدين المخلصين أنهم قد صحبهم فى عودتهم أمور أربعة :
وهذا كله قد منحه الله لهم جزاء إخلاصهم وثباتهم على الحق الذى آمنوا به .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
أى والله - تعالى - صاحب الفضل العظيم الذى لا يحده حصر ، ولا يحصيه عد ، هو الذى تفضل على هؤلاء المؤمنين الصادقين بما تفضل به نم عطاء كريم ، وثواب جزيل .
وفى هذا التذيل زيادة تبشير للمؤمنين برعاية الله لهم ، وزيادة تحسير للمتخلفين عن الجهاد فى سبيله - عز وجل - ، حيث حرموا أنفسهم مما فاز به المؤمنون الصادقون .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه ، المكتفي به ، المتجردين له :
( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ) .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء : نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع ، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله ، لأن هذا هو الأصل الكبير ، الذي يرجع إليه كل فضل ، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد ، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله ، صورتهم هذه ، وموقفهم هذا ، وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف ، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة ، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ؛ وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش ، وأيقظ القلوب ، وثبت الأقدام ، وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
{ فانقلبوا } فرجعوا من بدر . { بنعمة من الله عافية وثبات على الإيمان وزيادة . { وفضل } وربح في التجارة فإنهم لما أتوا بدرا وأوفوا بها سوقا فاتجروا وربحوا . { لم يمسسهم سوء } من جراحة وكيد عدو . { واتبعوا رضوان الله } الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم . { والله ذو فضل عظيم } قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد ، والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو ، وبالحفظ عن كل ما يسوءهم ، وإصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل . وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به .
وقوله تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه ، وباقي الآية بين قد مضت نظائره ، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية ، وأنها في غزوة -أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال : إن هذه الآية من قوله : { الذين قال لهم الناس } إلى قوله : { فضل عظيم } إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى بدر الصغرى ، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في - أحد - إذ قال : موعدنا بدر من العام المقبل ، فقال النبي عليه السلام : ( قولوا نعم ) {[3723]} : فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي{[3724]} فأخبره أن قريشاً قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها ، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ، وصمموا حتى أتوا بدراً فلم يجدوا عدواً ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدماً وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيداً وربحوا في تجارتهم ، فذلك قوله تعالى : { بنعمة من الله وفضل }{[3725]} أي فضل في تلك التجارة ، والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، وما قال ابن قتيبة وغيره : من أن لفظة { الناس } على رجل واحد من هذه الآية ، فقول ضعيف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ} فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح من وجههم الذي توجهوا فيه، وهو سيرهم في أثر عدوّهم إلى حمراء الأسد. {بنعمةٍ من اللّهِ} يعني: بعافية من ربهم لم يلقوا بها عدوّا. {وفضل} يعني: أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي اتجروا بها، والأجر الذي اكتسبوه. {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى. {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ} يعني بذلك أنهم أرضَوا الله بفعلهم ذلك واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ وطاعتهم. {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} يعني: والله ذو إحسان وطول عليهم بصرف عدوّهم الذي كانوا قد هموا بالكرّة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم، وعلى غيرهم بنعمه، عظيم عند من أنعم به عليه من خلقه. يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ} فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح من وجههم الذي توجهوا فيه، وهو سيرهم في أثر عدوّهم إلى حمراء الأسد. {بنعمةٍ من اللّهِ} يعني: بعافية من ربهم لم يلقوا بها عدوّا. {وفضل} يعني: أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي اتجروا بها، والأجر الذي اكتسبوه. {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى. {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ} يعني بذلك أنهم أرضَوا الله بفعلهم ذلك واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ وطاعتهم. {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} يعني: والله ذو إحسان وطول عليهم بصرف عدوّهم الذي كانوا قد هموا بالكرّة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم، وعلى غيرهم بنعمه، عظيم عند من أنعم به عليه من خلقه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فانقلبوا} فرجعوا من بدر {بِنِعْمَةٍ مّنَ الله} وهي السلامة وحذر العدوّ منهم {وفضل} وهو الربح في التجارة، كقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} [البقرة: 198]. {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوّ {واتبعوا رضوان الله} بجرأتهم وخروجهم {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. وروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم.
اعلم أن أهل المغازي اختلفوا، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد، والآية الثانية ببدر الصغرى، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى، والأول أولى، لأن قوله تعالى: {من بعد ما أصابهم القرح} كأنه يدل على قرب عهد بالقرح، فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه، والقول الآخر أيضا محتمل. والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة، فكأنه قيل: إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم، ثم استجابوا لله وللرسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا، وتوكلوا على الله ورضوا به كافيا ومعينا فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) أي فعادوا بعد خروجهم إلى لقاء الذين جمعوا لهم ومناجزتهم القتال متمتعين أو مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة كما روي عن ابن عباس، أو العافية كما روي عن مجاهد والسدي، أو ما هو أعم من ذلك. وأما الفضل فقد فسروه بالربح في التجارة، روى البيهقي عن ابن عباس أن بعيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل، والظاهر أن هذا الموسم هو موسم بدر الصغرى، وقد تقدم آنفا خبر الخروج إليها وأنهم اتجروا فيها وربحوا، وليس في ألفاظ الآية ما يدل على أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى أو بدر الموعد إلا هذه الكلمة بهذا التفسير، لأن غزوة حمراء الأسد المتصلة بغزوة أحد قد قيل لهم فيها: إن الناس قد جمعوا لكم فزادهم ذلك إيمانا فخرجوا إلى لقائهم، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل معنوي لم يمسسهم سوء ولا أذى، وفسر السوء بالقتل والجراح (واتبعوا رضوان الله) أي أعظم ما يرضيه وتستحق به كرامته (وراجع إلى تفسير "أفمن أتبع رضوان الله ") إن كنت نسيته فما هو ببعيد (والله ذو فضل عظيم) فإن كان أكرمهم بذلك في الدنيا، فقد يعطيهم ما هو أعظم وأكرم في العقبى.
ومن مباحث البلاغة في الآية الإيجاز في قوله: (فانقلبوا) فإنه يدل على أنهم خرجوا للقاء العدو وأنهم لم يلقوا كيدا فلم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم، ومثل هذا الحذف الذي يدل عليه المذكور بمجرد ذكره كثير في القرآن، كقوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) [الشعراء: 63] أي فضربه فانفلق. وقوله تعالى بعد ذكر مناجاة موسى عليه السلام له في أرض مدين وإرساله تعالى إياه إلى فرعون وجعل أخيه وزيرا له وأمرهما بأن يبلغا فرعون رسالته (قال فمن ربكما يا موسى) [طه: 50]؟ أي قال فرعون لما بلغاه الرسالة: إذا كان الأمر كما تقولان فمن ربكما يا موسى. فقد فهم من هذا الجواب أن موسى وهارون عليهما السلام صدعا بأمر ربهما وهبا إلى فرعون فبلغاه ما أمرهما الله تعالى بتبليغه إياه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"بنعمة من الله وفضل".. فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشاء. ومع التنويه بموقفهم الرائع، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله، لأن هذا هو الأصل الكبير، الذي يرجع إليه كل فضل، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فانقلبوا بنعمة من الله} تعقيب للإخبار عن ثبات إيمانهم وقولِهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهو تعقيب لمحذوف يدلّ عليه فعل {فانقلبوا}، لأنّ الانقلاب يقتضي أنَّهم خرجوا للقاء العدوّ الذي بلغ عنهم أنّهم جمعوا لَهم ولم يَعبأوا بخويف الشيطان، والتقدير: فخرجوا فانقلبوا بنعمة من الله.
والباء للملابسة أي ملابسين لِنعمة وفضل من الله. فالنعمة هي ما أخذوه من الأموال، والفضلُ فضل الجهاد. ومعنى لم يمسسهم سوء لم يلاقوا حرباً مع المشركين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله} بعد أن خرج أولئك الأبرار الأطهار، وقد استعدوا إلى اللقاء عادوا من بدر إذ لم يجدوا، فمعنى انقلبوا عادوا. والانقلاب في العودة تصوير للحال الحسية عند العودة؛ لأنهم بعد أن كانوا مستقبلين بدرا استدبر وها وبعد أن استدبروا استقبلوها، وهذا التعبير يدل على أنهم عادوا كما خرجوا لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ولكن صحبهم في هذه العودة أمور أربعة: أولها- نعمة الله عليه إذ خذل أعداءهم وثبطهم وألقى الرعب في قلوبهم وأحسوا بأنهم وحدهم لا قبل لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، ولذلك لما عادوا إلى القتال ومحاولة ضرب المدينة ضربة قاصمة جمعوا العرب بشتى قبائلهم في غزوة الأحزاب في العام الثاني. وثانيها- الفضل من الله، وقد فسر كثيرون الفضل بأنه فضل مالي؛ لأن المسلمين لما لم يجدوا قتالا اتجروا في بدر، ويروى أن عيرا كبيرة مرت ببدر في هذا الموسم من سوقها فاشتراها النبي صلى الله عليه وسلم فربح مالا، وقسمه بين أصحابه وذلك الربح هو الفضل، وقد روى البيهقي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا مانع من ان نعتبر ذلك الفضل معنويا، وهو فضل الجهاد والنية المحتسبة وقد باعوا انفسهم لله تعالى، ولعل الأولى أن نقول: إن الفضل يشمل النوعين الربح المالي، والشرف المعنوي، وكلاهما قد نالوه.
وثالث الأمور- أنهم عادوا سالمين، وهذا معنى: {لم يمسسهم سوء} أي لم تنزل بهم جراح، بل إنه حتى الأمر الذي يسوءهم لم يمسسهم بل قد عادوا فرحين مستبشرين، ورابع الأمور- انهم اتبعوا رضوان الله، أي اتبعوا امر الله تعالى، وساروا في الطريق الذي يكون فيه رضوانه تبارك وتعالى، ورضوان الله أعظم ما يناله المؤمن، وحسبه ان يكون في عمل فيه رضوان الله الذي هو أكبر النعم لينال حظي الدنيا والآخرة، وغن هذه النعم التي نالوها هي من فضل الله تعالى:
{والله ذو فضل عظيم} ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بذلك النص السامي وهي تصف المولى العلي الكريم بأنه صاحب فضل عظيم لا تكتنه حقيقته، ولا يحده الحصر، وقد بدا فيما أسبغه الله تعالى من نعم على الناس أجمعين، وما أنقذ به عباده المؤمنين من شر الكافرين، وما وفقهم له من طلب رضوانه وما نصرهم به من نصر مؤزر، والتنكير في الفضل ووصفه لإفادة كثرته وقوة أثره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) وأية نعمة وأي فضل أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء ويعود هؤلاء المقاتلون إِلى المدينة سالمين. يبقى أن نعرف أن الفرق بين النعمة والفضل، يمكن أن يكون بأن النعمة هي الأجر بقدر الاستحقاق، والفضل هو النفع الزائد على قدر الاستحقاق.