معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه صنع طعاماً ، ودعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر ، وسكروا فحضرت صلاة المغرب ، فقدموا رجلاً ليصلي بهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون . بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلاة ، حتى نزل تحريم الخمر . وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المفلس ، أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس ، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) .

قوله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً } ، نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب . يقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، ورجال جنب ، ونساء جنب . وأصل الجنابة : البعد ، وسمي جنباً لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .

قوله تعالى : { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } ، اختلفوا في معناه ، فقال :

إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ، ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد رضي الله عنهم . وقال الآخرون : بل المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : { وبيع وصلوات } [ الحج :40 ] ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب ، أو يصيبه جنابة والماء في المسجد ، أو يكون طريقه عليه ، فيمر به ولا يقيم . وهذا قول عبد الله بن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والزهري ، وذلك أن قوماً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور . واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن ، وبه قال مالك ، والشافعي ، رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه . أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم ، لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب ) وجوز أحمد المكث فيه ، وضعف الحديث لأن رواية مجهول ، وبه قال المزني . ولا يجوز للجنب الطواف ، كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة ، أخبرني عمر بن مرة قال : سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ، ويأكل معنا اللحم ، ويقرأ القرآن ، وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة " .

وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني ، أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ، ثم صار منسوخاً .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل " .

قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } ، جمع مريض ، وأراد به مرضاً يضره إمساس الماء ، مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف ، أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم ، وإن كان الماء موجوداً ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحاً والبعض جريحاً غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز الغاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى ابن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة ، عن الزبير بن حزيق ، عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم ، فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب -شك الراوي- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده .

ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم . والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .

قوله تعالى : { أو على سفر } . أراد أنه إذا كان في سفر طويلاً كان أو قصيراً ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه . لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره ) .

فإذا ذلك خيرا أما إذا لم يكن الرجل مريضاً ، ولا في سفر ، لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالباً ، بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ، ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنهما يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .

قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط .

قوله تعالى : { أو لامستم النساء } ، قرأ حمزة والكسائي { لامستم } هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون { لامستم النساء } . واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وكني باللمس عن الجماع ، لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ، وقال قوم : هما التقاء البشرتين ، سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي ، والنخعي . واختلف الفقهاء في حكم هذه الآية .

فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري ، والأوزاعي ، والشافعي رضي الله عنهما . وقال مالك ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض . وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال . وهو قول ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والثوري . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ينتقض إلا إذا أحدث الانتشار . واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : " كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أن أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمةً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل ، فلمسته بيدي ، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم ، والبنت ، والأخت ، أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة ، كما لو لمس رجلاً . واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين : أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ . كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد ، ولو لمس شعر امرأة أو سنها ، أو ظفرها ، لم ينتقض وضوءه عنده .

واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء ، أو يتيمم إذا لم يجد الماء .

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) .

والحدث : هو خروج الخارج من أحد الفرجين عيناً كان أو أثراً : أوالغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان . وأما النوم : فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء ، إلا أن ينام قاعداً ممكناً فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال : قعوداً ، حتى تخفق رؤوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤون .

وذهب قوم إلى النوم يوجب الوضوء بكل حال ، وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، والمزني . وذهب قوم : إلى أنه لو نام قائماً ، أو قاعداً ، أو ساجداً ، فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً . وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي . واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره : فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وعائشة رضي الله عنها . وبه قال سعيد بن المسيب ، وسليمان ابن يسار ، وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول : لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف ، أو بطون الأصابع . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك . فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ ) .

وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء ، وحذيفة ، وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : ( هل هو إلا بضعة منك ؟ ) ويروى هل هو إلا بضعة أو مضغة منه ؟

ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة ، لأن أبا هريرة يروي أيضاً أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد ، واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة : إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء ، وطاووس ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، رحمهما الله ، وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء ، والرعاف ، والفصد ، والحجامة ، منهم سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق . واتفقوا على أن القليل منه ، وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ، ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .

قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة .

روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) .

وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم { فتيمموا } ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادةً فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً ، فوا الله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة ، { فتيمموا }أي : اقصدوا .

قوله تعالى : { صعيداً طيباً } . أي : تراباً طاهراً نظيفاً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد : هو التراب ، واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهوراً " . وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ ، والجص ، والنورة ، وغيرها من طبقات الأرض حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها ، أو على التراب ، ثم نفخ فيه حتى زال كله ، فمسح به وجهه ويديه صح تيممه . وقالوا : الصعيد . وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا ) . وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل ، وجوز بعضهم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ، ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض ، والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : { فتيمموا } ، والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .

قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً } .

اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدان مع المرفقين بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح بهما جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربةً أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين . لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فتحه بعصاً كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد علي السلام . ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حته ، وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب ، وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم . كما روي أنه قال : أجنبت فتمكعت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين . وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين . وهو قول علي ، وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد ابن عبد الرحمن عن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ؟ فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر ، إنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمكعت فصليت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ؟

وقال محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن كثير ، عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمكعت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يكفيك الوجه والكفان .

وفي الحديث دليل على الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء . وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : { أو لمستم النساء } على اللمس باليد دون الجماع .

وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله ، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضاً : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عباد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنباً أن يتيمم ثم يصلي ، فإذا وجد الماء اغتسل .

وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمه من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة ، وكانت تصيبني الجنابة ، فامكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر ؟ فسكت ، فقال : " ثكلتك أمك يا أبا ذر ، لأمك الويل ، فدعا بجارية سوداء ، فجاءت بعس فيه ماء ، فسترتني بثوب ، واستترت بالراحلة ، فاغتسلت فكأني ألقيت عني جبلا فقال : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .

ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلاً عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلاً عن غسله ، ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } إلى أن قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث . وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً . وإن كان تيممه بعذر السفر ، وعدم الماء ، فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه في رحله ، ومن رفقائه ، وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ولا يقال : لم يجد ، إلا لمن طلب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ، طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأي الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الأحكام التى تتعلق بالصلاة وأرشدهم إلى ما يجب عليهم عند أدائها من تظهير بدنى وروحى حتى يكونوا أهلا لرضا الله وحسن قبوله ، فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( 43 )

روى المفسرون فى سبب نزول الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائى عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر ، قد شربوا الخمر . فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : قل يا أيها الكافرون . فخلط فيها . فنزلت : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } .

وروى الترمذى وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال : صنع لنا بعد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر . فأخذت الخمر منا . وحضرت الصلاة . فقدموا فلانا . قال : فقرأ : " قل يأيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون " فأنزل الله الآية .

قال ابن كثير : وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر . كما دل عليه الحديث الذى ذكرناه فى سورة البقرة عند قوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } الآية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاهما على عمر . فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة - وفى رواية لأبى داود : فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادى : لا يقربن الصلاة سكران - حتى نزل قوله - تعالى - فى سورة المائدة : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال عمر : انتهينا انتهينا .

والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء : الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام ركوع وسجود .

والمراد بقربها : القيام إليها والتلبس بها ، إلا أنه - سبحانه - نهى عن القرب منها مبالغة فى النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها .

وقوله { سكارى } جمع سكران .

وأصل السكر فى اللغة السد . ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته . ومنه قوله - تعالى - حكاية عن الكافرين { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أى : انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور ، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها .

والمراد بالسكر هنا الحالة التى تحصل لشارب الخمر والتى يفقد معها وعيه ، ويسد ما بين المرء وعقله .

والجنب : من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما . وهذا اللفظ يستوى فيه - على الصحيح - الواحد ، والمثنى ، والجمع ، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر ، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة .

وعابر السبيل : مجتاز الطريق وهو المسافر . أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب .

يقال : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا . ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم فى حالة السكر .

حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها ، ولا فى حال الجنابة حتى تغتسلوا ؛ إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكى تؤدوها .

ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا : مواضعها وهى المساجد . فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل .

والمعنى عليه : لا تقربوا مواضع الصلاة وهى المساجد وأنتم سكارى ، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها إنه يجوز لكم ذلك .

روى ابن جرير عن الليث قال : حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله - تعالى - : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد تصيبهم نابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء . ولا يجدون ممرا إلا فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } .

وقال بعض العلماء : وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله { وَأَنْتُمْ سكارى } تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقى ، من دون تقدير مضاف : وقوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقوى تقدير المضاف . أى : لا تقربوا موضع الصلاة .

ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهى - وهو قوله : { وَأَنْتُمْ سكارى } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقى .

وبعض قيود النهى - وهو قوله : إلا عابرى سبيل - يدل على أن المراد مواضع الصلاة .

ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه . ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد . وهما : لا تقربوا الصلاة التى هى ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى . ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب . وغاية ما يقال فى هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز .

وفى ندائهم بصفة الإيمان ، تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإِيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين .

وقوله { وَأَنْتُمْ سكارى } جملة حالية . أى لا تقربوها فى حال السكر ، لأن ذلك يتنافى مع الإِيمان السليم ، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب . وإنما الذى يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا فى الصلاة وأنتم بكامل وعيكم ، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب .

ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القطاع لشرب الخمر فى جمع الأوقات كما سبق أن أشرنا .

وقوله { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } غاية للنهى وإيماء إلى علته .

وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى ، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة . وما فى قوله { مَا تَقُولُونَ } موصولة بمعنى الذى أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه .

أى : حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط ، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة .

قال الآلوسى : وقد روى أنهم كانوا بعدما أنزلت الآية لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون .

وقوله { وَلاَ جُنُباً } معطوف على قوله { وَأَنْتُمْ سكارى } إذ الجملة فى موضع النصب على الحال . والاستثناء فى قوله { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } مفرغ من أعم الأحوال .

وقوله { حتى تَغْتَسِلُواْ } بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب .

والاغتسال : تعميم الجسد كله بالماء . وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التى أدت إلى الجنابة . وهو كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث فى الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت . فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه ، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله .

ثم شرع - سبحانه - فى بيان الأعذار التى تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } والمراد بالمرض فى قوله - تعالى - : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } : المرض الذى يمنع من استعمال الماء مطلقا ، كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء ، فإن الله - تعالى - قد أباح للمريض فى هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل . كما أباح له - أيضا - أن يتيمم عند فقد الماء أو ما فى حكم ذلك .

وقوله : { أَوْ على سَفَرٍ } فى محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله : { مرضى } .

أى : وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء ، أو كان معكم من الماء ما أنتم فى حاجة شديدة إليه ، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء .

وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } معطوف على قوله : { كُنْتُمْ } .

والغائظ من الغيظ . وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من بريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .

وفى إسناد المجئ إلى واحد مبهم من المخاطبين ، سمو فى الخطاب ، حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما بستهجن التصريح به .

أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله .

والمراد بالملامسة فى قوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } يريد - سبحانه - : أو جامعتم النساء .

إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع ، لأنه ما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه . وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما .

وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع . أى ما سستم بشرتهن ببشرتكم . وبه استدل الشافعى على أن اللمس بنقض الوضوء .

وقال مالك : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا . . .

وذهب أبو حنيقة إلا أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة . . . والفاء فى قوله { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } . والضمير فى قوله { تَجِدُواْ } يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس . وفيه تغليب للخطاب على الغيبة . وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة فى قوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } بينما تقدم ضمير المخاطب فى قوله { كُنْتُمْ } { لاَمَسْتُمُ } .

والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى . أى أن قوله { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشئ المتعذر استعماله كالمعدوم .

وقوله { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ } .

والمعنى : وإن كنتم أيها المؤمنون فى حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا فى تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم ، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله ، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا ، بدلا من الماء ، فان الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجمع ما عدا المرضى ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله .

وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان . عدم الوجدان الحسى .

والتيمم لغة : القصد . يقال تيممت الشى أى قصدته .

ويطلق فى الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .

وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ، ترابا كان أو غيره . وقيل طلق على التراب خاصة .

والطيب : الطاهر الذى لم تلوثه نجاسة ولا قذر .

أى : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهراً بارزاً على وجه الأرض لكى تستعملوه فى طهارتكم عوضا عن الماء .

وقوله { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } بيان لكيفية التيمم .

أى : اقصدوا تراباً على ظاهر الأرض طاهراً فسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .

وقوله { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } تذييل قصد به بيان أنه - سبحانه - متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذى يسهل عليهم اداؤه من غير مشقة مرهقة ، وأنه هو الغفار الذى يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب .

هذا ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- أن من الواجب على المسلم عندما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها ، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله - تعالى ، ومن شأن المناجى لله - تعالى - أن يتفرغ لذلك ، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدى الله رب العالمين .

2- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحوا . فإذا أداها حال سكره تكون باطلة ، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر .

3- استدل بهذه الآية - من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها - على أنه يحرم على السكران دخول المسجد ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، ويقاس عليه كل ذى نجاسة يخشى معها التلويث والسياب ونحوه .

4- استدلوا بقوله - تعالى - : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه ، لأنه فى هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم . فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه " .

وروى البخارى عن أنس عن النبى صلى الله علي وسلم قال : " إذا نعس أحدكم فى الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ " .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ { سكارى } السكر من الخمر ، وإنما المراد منه سكر النوم . لأن لفظ السكر يستعمل فى النوم فكان هذا اللفظ محتملا له . . .

ثم قال الرازى : واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور هو من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ { سكارى } السكر من الخمر ، لأن لفظ السكر حقيقة فى السكر من شرب الخمر ، والأصل فى الكلام الحقيقة . . . ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت فى شرب الخمر . . .

5- استدلوا بقوله - تعالى { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ } على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، إلا أنه يجوز له المرور فيه .

قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس فى قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابرى سبيل . أى : تمر به مراً ولا تجلس .

وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب فى قوله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجلا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون مروراً إلى فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ويشهد لصحة ذلك ما ثبت فى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" سدوا كل خوخة فى المسجد إلا خوخة أبى بكر . . "

وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضاً متى أمنت كل واحدة منهما التلويث فى حال المرور . . .

ثم قال ابن كثير : وقوله { حتى تَغْتَسِلُواْ } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله . وذهب الإِمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث فى المسجد ، لما روى من أن صحابه كانوا يفعلون ذلك . وعن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون فى المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .

6- ظاهر قوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء ، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء .

ولكن هذا الظاهر غير مراد ، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء ، وكنا فى حاجة شديدة إليه ، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم ، وهذا بتعارض مع سماحه الشريعة الإِسلامية ويسرها ، قال - تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس ، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء فى الطهارة ليقعوا فى العنت بسبب العطش أو الجوع . أو بإلزامهم استعمال الماء فى طهارتهم مع أن فى استعماله مضرة بهم .

لهذا قال العلماء : إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء ، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه .

ولقد ورد فى السنة الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله .

ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطنى عن جابر قال : " خرجنا فى سفر . فأصاب رجلا منا حجر فشجه فى رأسه . ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لى رخصة فى التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات . فلما قدمنا على النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بدلك فقال : قتلوه ، قتلهم الله ، هلا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العى السؤال . إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده " .

وروى أبو داود والدارقطنى عن عمرو بن العاص قال :

" احتلمت فى ليلة باردة فى غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك . فتيممت . ثم صليت بأصحابى الصبح . فذركوا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو صليت باصحابى وأنت جنب " ؟ فأخبرته بالذى منعنى من الاغتسال وقلت : إنى سمعت الله يقول : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا " .

قال القرطبى - بعد أن ساق هذا الحديث والذى قبله - فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض - عند استعمال الماء - : وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم ، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين . وهذا أحد القولين عندنا . وهو الصحيح الذى أقره مالك مالك فى موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .

وقال ابن كثير : وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء . فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب فى كتب الفروع . .

7- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله - تعالى - { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } : أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب ولأنه ثبت فى صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة . وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا . وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " قالوا : فخصص الطهور بالتراب فى مقام الامتنان . فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .

ويرى الإِمام أبو حنيفة التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب .

وتوسع الإِمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجرة والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض .

قال القرطبى عند حديثه عن اختلاف الفقهاء فى ذلك : وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإِجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب . ومكان الإِجماع فى المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما . أو على النجاسات . واختلف فى غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره . ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره . . .

8- أفاد قوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } أن الواجب فى التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أو عن الغسل .

قال القرطبى : وروى التيمم إلى المرفقين عن النبى صلى الله عليه وسلم جابر عن عبد الله ، وابن عمر وبه كان يقول : قال الدارقطنى : سئل قتادة عن التيمم فى السفر فقال : كان ابن عمر يقول : إلى المرفقين .

وكان الحسن وإبراهيم النخعى يقولان : إلى المرفقين .

ثم قال : وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان . روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبى فى رواية . وبه قال أحمد ابن حنبل ، والطبرى .

وقال مكحول : اجتمعت أنا والزهرى فتذاكرنا التيمم فقال الزهرى : المسح إلى الآباط .

وقال ابن أبى الجهم : التيمم بضربة واحدة ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبرى .

9- ذكر المفسرون فى سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : خرجنا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره : حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقدلى . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه . وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . فجاء أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام . فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . قالت عائشة : فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول . فجعل يطعننى بيده فى خاصرتى فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء . فأنزل الله آية التيمم . فتيمموا . فقال أسيد بن الحضير : ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر .

قالت : فبعثنا البعير الذى كنت عليه فوجدنا العقد تحته .

قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعيته التيمم ، وإنما ذكرنا ذلك ههنا ، لأن هذه الآية التى فى النساء متقدمة فى النزول على آية سورة المائدة وبيانه : أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر . والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير ، فى محاصرة النبى صلى الله عليه وسلم لبنى النضير . وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها . فناسب أن يذكر السبب هنا .

10- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عروضا عن الطهارة بالماء فقال : والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما فى حديث جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى - فذكر منها - وعلت لى الأرض مسجدا وطهورا " .

والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة . ولم أر لأحد من العلماء بيانا فى حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء ، وكان ذلك من همى زمنا طويلا وقت الطلب .

ثم انفتح لى حكمة ذلك .

وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة فى نفوس المؤمنين . وتقرير حرمة الصلاة وترفيع شأنها فى نفوسهم . فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله - تعالى - فلذك شرع لهم عملا يشبه الإِيمان إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التى هى منبع الماء . ولأن التراب مستعمل فى تطهير الآنية ونحوها ، ينطقون به ما علق لهم من الأقذار فى ثيابهم وأبدانهم وما عونهم . وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك ، مع ما فى ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه . وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين فى الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت فى الصحيح " عن عمار بن ياسر قال : كنت فى سفر فأجنبت فتمعكت فى التراب " أى تمرغت " وصليت . فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : " يكفيك الوجه والكفان " ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء فى غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم .

هذا منتهى ما عرض لى من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل فى حكمة مقنعة فى النظر .

وبعد ، فهذه بعض الأحكام والآداب التى اشتملت عليها تلك الآية ، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم ، ويصفى نفوسهم ، ويبعدهم عن الأسباب التى تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين ، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله .

كما ترى كيف استعملت فى خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات ؛ وأسمى التعبيرات ، وأبلغ الإِشارات ، وفى ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون فى نياهم وآخرتهم .

هذا ، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا ، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإِسلامى تنظيما حكيما ، وساقت لهم من التوجيات السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الجليلة . . . ما يجعلهم يعيشون فى أمان واطمئنان .

ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا فى أكثر من عشر آيات ، ألوانا من رذائل أهل الكتاب ، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية ، ومن حسدهم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به . . والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة . وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها ، وأحكام الطهارة الممهدة لها :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . وإن كنتم مرضى أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورا )

إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة ؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته ؛ وللمجتمع الفارسي أيضا . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته ! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى !

في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لترا . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان ؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة . . ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة ! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط ! وبعد ذلك يباح شرب " النبيذ والبيرة " فحسب ! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . . !

أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون " الجفاف " ! من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع " الري " بالخمر ! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة . وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه . وقد أعدم فيها 300 نفس ؛ وسجن كذلك 335ر532 نفسا . وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه . وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه . . وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .

فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي . . ببضع آيات من القرآن .

وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني . . بين منهج الله ، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء !

ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي ، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ؛ حيث نجد " الخمر " عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها .

لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر ، أن أصبحت كلمة التجارة ، مرادفة لبيع الخمر . . يقول لبيد :

قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها

ويقول عمرو بن قميئة :

إذا أسحب الريط والمروط إلى أدني تجاري وأنفض اللمما

ووصف مجالس الشراب ، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي ، وتطبعه طابعا ظاهرا . يقول امرؤ القيس :

( وأصبحت ودعت الصبا غير % أنني أراقب خلات من العيش أربعا )

( فمنهن قولي للندامى : تفرفقوا % يداجون نشاجا من الخمر مترعا )

( ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا % يبادرن سربا آمنا أن يفزعا )

. . . الخ

ويقول طرفة بن العبد :

( فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى % وجدك لم أحفل متى قام عودي )

فمنهن سبقي العاذلات بشربة % كميت متى ما تعل بالماء تزبد )

( وما زال تشرابي الخمور ولذتي % وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي )

( إلى أن تحامتني العشيرة كلها % وأفردت إفراد البعير المعبد )

ويقول الأعشى :

( فقد أشرب الراح قد تعلمين % يوم المقام ويوم الظعن )

( وأشرب بالريف حتى يقال % قد طال بالريف ما قد دجن )

ويقول المنخل اليشكري :

( ولقد شربت من المدامة % بالصغير وبالكبير )

( فإذا سكرت فإنني % رب الخورنق والسدير )

( وإذا صحوت فإنني % رب الشويهة والبعير )

وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي . .

ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث . . وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبدالرحمن بن عوف . . وأمثال هذا الطراز من الرجال . . تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية . وتكفي عن الوصف المطول المفصل :

يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه . . في رواية . . " كنت صاحب خمر في الجاهلية . فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب . . . "

وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام . حتى إذا نزلت آية : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . . قال : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . واستمر . . حتى إذا نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . قال : اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر ! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) . . قال : انتهينا انتهينا ! وانتهى . .

وفي سبب نزول هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .

روى ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات . صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار . فأكلنا وشربنا ، حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير [ عظم الفك ] فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف . وذلك قبل تحريم الخمر . فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) . . والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبى عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : " صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلانا قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون ! فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات ؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي . فهي كانت والميسر ، الظاهرتين البارزتين ؛ المتداخلتين ، في تقاليد هذا المجتمع . .

فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة ؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة ، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا ؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصلية قديمة ، تتعلق بها تقاليد اجتماعية ؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية ؟

لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن ؛ وعلى مراحل ، وفي رفق وتؤدة . وكسب المعركة . دون حرب . ودون تضحيات . ودون إراقة دماء . . والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواهم . ولم يبلعوها . كما سيجيء !

في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان . . إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر . تدرك من ثنايا العبارة . وهي مجرد إشارة :

جاء في سورة النحل : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنًا ) . . فوضع " السكر " وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب ، وفي مقابل الرزق الحسن ! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء . والرزق " الحسن " شيء آخر . . وكانت مجرد لمسة من بعيد ؛ للضمير المسلم الوليد !

ولكن عادة الشراب ، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية . كان تقليدا اجتماعيا ، له جذور اقتصادية . . كأن أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة .

وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان . . لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان . إنما كان أولا سلطان القرآن . .

وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ، وفي خبرة بالنفس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية . .

بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس . . وإثمهما أكبر من نفعهما . . )

وكانت هي الطرقة الأولى ، ذات الصوت المسموع . . في الحس الإسلامي ، وفي الضمير الإسلامي ، وفي المنطق الفقهي الإسلامي . . فمدار الحل والحرمة . . أو الكراهية . . على رجحان الإثم أو رجحان الخير ، في أمر من الأمور . . وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما . . فهذا مفرق الطريق . .

ولكن الأمر كان أعمق من هذا . . وقال عمر - رضي الله عنه - : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . عمر ! ! ! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي !

ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون ) . .

وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل . .

لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة ، بين التنفير من الخمر ، لأن إثمها أكبر من نفعها ، وبين التحريم البات ، لأنها رجس من عمل الشيطان . وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة : هي " قطع عادة الشراب " أو " كسر الإدمان " . . وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة . وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار . وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ ! حتى يعملوا ما يقولون ! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق . . صباحا ومساء . . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة . . وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب . . وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة . .

ومع ذلك . . فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر ! ! ! - " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . .

ثم مضى الزمن . ووقعت الأحداث . وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة . فنزلت الآيتان في المائدة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ ) . .

وانتهى المسلمون كافة . وأريقت زقاق الخمر ، وكسرت دنانها في كل مكان . . بمجرد سماع الأمر . . ومج الذين كان في أفواهم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم وهم شاربون . .

لقد انتصر القرآن . وأفلح المنهج . وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان ! ! !

ولكن كيف كان هذا ؟ كيف تمت هذه المعجزة ، التي لا نظير لها في تاريخ البشر ؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان ، ولا في أي زمان ؟

لقد تمت المعجزة ، لأن المنهج الرباني ، أخذ النفس الإنسانية ، بطريقته الخاصة . . أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان . . أخذها جملة لا تفاريق . . وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة . .

لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء . . في الهواء . .

ملأ فراغها باهتمامات . منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها ، من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرهاالمتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة ، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة !

وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان . بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج . فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر ، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير ! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء . . وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله . . وتذوق طعم هذا القرب ، فتمج طعم الخمر ونشوتها ؛ وترفض خمارها وصداعها ؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية !

إنه استنفذ الفطرة من ركام الجاهلية ؛ وفتحها بمفتاحها ، الذي لا تفتح بغيره ؛ وتمشى في حناياها وأوصالها ؛ وفي مسالكها ودروبها . . ينشر النور ، والحياة ، والنظافة ، والطهر ، واليقظة ، والهمة ، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير ، والخلافة في الأرض ، على أصولها ، التي قررها العليم الخبير ، وعلى عهد الله وشرطه ، وعلى هدى ونور . .

إن الخمر - كالميسر . كبقية الملاهي . كالجنون بما يسمونه " الألعاب الرياضية " والإسراف في الاهتمام بمشاهدها . . كالجنون بالسرعة . . كالجنون بالسينما . . كالجنون " بالمودات " " والتقاليع " . . كالجنون بمصارعة الثيران . . كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم ، جاهلية الحضارة الصناعية !

إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي . . من الإيمان أولا . . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا . . وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية . . ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا . . وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى " الجنون " المعروف ، وإلى المرض النفسي والعصبي . . وإلى الشذوذ . .

إنها لم تكن كلمات . . هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة . . إنما كان منهج . منهج هذه الكلمات متنه وأصله . منهج من صنع رب الناس . لا من صنع الناس ! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير !

إنه ليست المسألة أن يقال كلام ! فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أو فلان من الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين ! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا ، أو مذهبا ، أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائر الناس تتلقاه ، بلا سلطان . لأنه ( ما أنزل الله به من سلطان ) ! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور !

فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج ، غير منهج العليم الخبير ؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير ؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير ؟

متى ؟ متى ينتهون عن هذا الغرور ؟ ؟ ؟

ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . . . )

كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى - حتى يعلموا ما يقولون - كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا . .

وتختلف الأقوال في المقصود من ( عابري سبيل ) كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه . .

فقول : إن المقصود هو عدم قرب المساجد ، أو المكث فيها ، لمن كان جنبا ، حتى يغتسل . إلا أن يكون عابرا بالمسجد مجرد عبور . وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول [ ص ] وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت . فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال .

وقول : إن المقصود هو الصلاة ذاتها . والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - مالم يكن مسافرا . فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم . الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء . .

والقول الأول يبدو أظهر وأوجه . لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك . فتفسير عابري سبيل - بالمسافرين ، ينشيء تكرارا للحكم في الآية الواحدة ، لا ضرورة له : ( وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيدا طيبا . فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورًا ) . .

فهذا النص يشمل حالة المسافر - عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنبا في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر ، فيكون في حاجة إلى الوضوء ، لأداء الصلاة .

والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضا ، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط [ والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه ، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل ] فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء . أو بمن لامس النساء . .

وفي( لامستم النساء ) . . أقوال كذلك :

قول : إنه كناية عن الجماع . . فهو يستوجب الغسل .

وقول : إنه يعني حقيقة اللمس . . لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة . . وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب ، ولا يستوجبه في بعضها . بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالا :

" أ " اللمس يوجب الوضوء إطلاقا .

" ب " اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس . وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس .

" ج " اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة .

" د " اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقا ، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة . .

ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول [ ص ] . . على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع .

والذي نرجحه في معنى ( او لامستم النساء )أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل . وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء . .

وفي جميع هذه الحالات المذكورة ، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة . . حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضارا أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء : التيمم . وقد جاء اسمه من نص الآية .

فتيمموا صعيدا طيبًا . .

أي فاقصدوا صعيدا طيبا . . طاهرا . . والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب . أو حجر . أو حائط . ولو كان التراب مما على ظهر الدابة . أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير . متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به .

وطريقة التيمم : إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر . ثم نفضهما . ثم مسح الوجه . ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما . . وإما خبطتان : خبطة يمسح بها الوجه ، وخبطة يمسح بها الذراعان . . ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا . . فهذا الدين يسر ، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا :

إن الله كان عفوا غفورًا . .

وهو التعقيب الموحي بالتيسير . وبالعطف على الضعف ، وبالمسامحة في القصور . والمغفرة في التقصير . .

تعقيب حول حكمة الوضوء والتيمم

وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس . . نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة : نقف أمام " حكمة التيمم " نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها . .

إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية ، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام ؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة ؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء ! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية . . ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا . . وأولى : أن نقول دائما : إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم . وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها ! وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية . بدون إفراط ولا تفريط . .

أقول هذا ، لأن بعضنا - ومنهم المخصلون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس ، ومعها حكمة محددة ، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه " العلم الحديث " ! وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة .

وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة . .

وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء . ولكن الجزم بأنه هو . . وهو دون غيره . . هو المنهج غير السليم . وغير المأمون أيضا :

فقد جاء وقت قال بعض المماحكين : لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية : فالنظافة الآن موفورة . والناسيجعلونها في برنامج حياتهم اليومي . فإذا كانت هذه هي " حكمة الوضوء " فلا داعي للوضوء إذن للصلاة ! بل . . لا داعي للصلاة أيضا ! !

وكثيرا ما ذكر عن " حكمة الصلاة " . . تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام : أولا في مواقيتها . وثانيا في حركاتها . وثالثا في نظام الصفوف والإمامة . . الخ . وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة . . وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا . . ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك او ذلك هو " حكمة الصلاة " يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون .

وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه : إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية . فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون !

وقال بعضهم : ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام . فعندنا الجندية - مجال النظام الأكبر . وفيها غناء ! وقال بعضهم : لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة . فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح ، التي قد تعطل الاستشراف الروحي !

وهكذا . . إذا رحنا " نحدد " حكمة كل عبادة . وحكمة كل حكم . ونعلله تعليلًا وفق( العقل البشري )أو وفق " العلم الحديث " ثم نجزم بأن هذا هو المقصود . . فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه . كما نبعد كذلك عن الحد المأمون . ونفتح الباب دائما للمماحكات . فوق ما تحتملة تعليلاتنا من خطأ جسيم . وبخاصة حين نربطها بالعلم . والعلم قلب لا يثبت على حال . وهو كل يوم في تصحيح وتعديل !

وهنا في موضوعنا الحاضر ! موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل ، ليست هي " مجرد " النظافة . وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما ، لا يحقق هذه " الحكمة " ! فلا بد إذن من حكمة " أخرى " للوضوء أو الغسل . تكون متحققة كذلك في " التيمم " .

ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم ! ولكننا نقول فقط : إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله ، بعمل ما ، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية ، وبين اللقاء العظيم الكريم . . ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل او مكان الوضوء . .

ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف ؛ بدخائل النفوس ، ومنحنياتها ودروبها ، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير . . ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير . .

ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة ؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات . وتذليل هذه المعوقات . والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء ، ومحل الغسل ، أو محلهما معا ، عند تعذر وجود الماء ؛ أو عند التضرر بالماء [ أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة ] وكذلك عند السفر [ حتى مع وجود الماء في أقوال ] . .

إن هذا كله يدل - بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف - في ميدان القتال - على حرص شديد من المنهج الرباني ، على الصلاة . . بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب [ ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدي الصلاة من قعود ، أو من اضطجاع ، أو من نوم . وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف ! ]

إنها هذه الصلة بين العبد والرب . الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها . لأنه - سبحانه - يعلم ضرورتها لهذا العبد . فالله سبحانه غني عن العالمين . ولا يناله من عبادة العباد شيء . إلا صلاحهم هم . وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله ، من العون على تكاليفهم ، والاسترواح لقلوبهم ، والاطمئنان لأرواحهم . والإشراق في كيانهم ؛ والشعور بأنهم في كنف الله ، وقربه ، ورعايته ، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم . . والله أعلم بفطرتهم هذه ، وبما يصلح لها وما يصلحها . . وهو أعلم بمن خلق . وهو اللطيف الخبير .

ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير :

ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . فلا يقول : إذا عملتم كذا وكذا . . بل يكتفي بالعودة من هذا المكان ، كناية عما تم فيه ! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين . فلا يقول : أو جئتم من الغائط . بل يقول : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) زيادة في أدب الخطاب ، ولطف الكناية . ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون !

وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله : ( أو لامستم النساء ) والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس ، في الحديث عن مثل هذه الشؤون . عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف .

وحين يعبر عن الصعيد الطاهر ، بأنه الصعيد الطيب . ليشير إلى أن الطاهر طيب . وأن النجس خبيث . . وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس . .

وسبحان خالق النفوس . العليم بهذه النفوس !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم . روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مادبة ودعا نفرا من الصحابة -حين كانت الخمر مباحة- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) . فنزلت . وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر ، من السكر وهو السد . وقرئ { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى . أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة . { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجري مجرى المصدر . { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل . وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث . ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد . وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق . { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه . { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد . أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه . { أو على سفر } لا تجدونه فيه . { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض . { أو لامستم النساء } أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء . وقيل : أو جامعتموهن . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة " لمستم " ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة . { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود . ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر . والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا . ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه . وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } . { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر : أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، فحضرت الصلاة ، فتقدمهم علي بن أبي طالب ، فقرأ { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] فخلط فيها ، بأن قال : «أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد » ، فنزلت الآية ، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف{[4055]} .

وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : إنما المراد سكر النوم{[4056]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والخطاب لجميع الأمة الصاحين ، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت ، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق ، على ما ذهب إليه بعض الناس .

وقرأت فرقة { سكارى } جمع سكران{[4057]} ، وقرأت فرقة «سَكرى » بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش : «سُكرى » بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى ، وقرأ النخعي «سَكرى » بفتح السين{[4058]} . قال أبو الفتح : هو تكسير سكران على سكارى ، كما قالوا : روبى نياماً{[4059]} وكقولهم : هلكى وميدى{[4060]} في جمع هالك ومائد ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة ، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى ، وأما «سُكرى » بضم السين فصفة لواحدة ، كحبلى ، والسكر انسداد الفهم ، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا العبادة المعروفة ، حسب السبب في نزول الآية ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين{[4061]} .

قال القاضي أبو محمد : وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل ، ويظهر من قوله : { حتى تعلموا } أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره : إن السكران لا يلزمه طلاقه ، فأسقط عنه أحكام القول ، لهذا ، ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت ؟ فمعناه : أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار .

قال القاضي أبو محمد : وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق ، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين ، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم ، ويحكم عليه حكم العالم ، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى ، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين ، وأما أحكام الجنايات ، فهي كلها لازمة للسكران { وأنتم سكارى } ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال ، وحكي عن ابن فورك أنه قال : معنى الآية النهي عن السكر ، أي لا يكن منكم سكر ، فيقع قرب الصلاة ، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأباً ، والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، وقد روي : أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون اثر الصبح واثر العتمة ، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون .

وقوله : { ولا جنباً } عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة{[4062]} ، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة ، وروي عن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل{[4063]} ، وهو من الجنابة ، وهي : البعد ، كأنه جانب الطهر أو من الجنب ، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنباً ، وقرأت فرقة «جنْباً » بإسكان النون ، و { عابري سبيل } هو من العبور أي : الخطور والجواز ، ومنه : عبر السفينة النهر ، ومنه : ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة{[4064]} ، أي تعبرها بسرعة السير ، قال الشاعر : وهي امرأة : [ الكامل ]

عَيْرَانَةٌ سَرْحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ *** عَبْرَ الهَوَاجِرِ كَالْهُزُفِّ الخَاضِبِ{[4065]}

وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل هو المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم : عابر السبيل الخاطر في المسجد ، وهو المقصود في الآية ، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى ، وروى بعضهم : أن سبب نزول الآية { أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد ، فنزلت الآية في ذلك{[4066]} ، ثم نزلت { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية ، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " {[4067]} حين أقام على التماس العقد{[4068]} ، هكذا قال الجمهور ، وقال النخعي : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ، ذكر النقاش : أن ذلك نزل بعبد الرحمن بن عوف ، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري ، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به ، وهذا يتيمم بإجماع ، إلا ما روي عن عطاء : أنه يتطهر وإن مات ، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة والذي يخاف بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت ، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول ، وإما خوف ما ذكرناه ، وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ، وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور ، والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ، والمسافر في هذه الآية : هو الغائب عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الشافعي في كتاب الأشراف ، وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير ، وهذا ضعيف .

قال القاضي أبو محمد : وكذلك قالت فرقة : لا يتيمم في سفر معصية ، وهذا أيضاً ضعيف ، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة ، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه ، وإما خوف على الرجل بسبب طلبه ، وإما خوف سباع أو إذاية عليه ، واختلف في وقت إيقاعه التيمم ، فقال الشافعي : في أول الوقت ، وقال أبو حنيفة وغيره : في آخر الوقت ، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت ، والجاهل بأمره جملة ، وقال إسحق بن راهويه : لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله ، وقالت طائفة : يخرج من طلبه الغلوتين{[4069]} ونحوهما ، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال ، وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وأصل { الغائط } ما انخفض من الأرض ، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع ، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه ، وقرأ قتادة الزهري «من الغيْط » ساكنة الياء من غير ألف ، قال ابن جني : هو محذوف من فيعل ، عين هذه الكلمة واو{[4070]} ، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ، واختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما اعتقد في ذلك : أن أنواع الأحداث ثلاثة ، ما خرج من السبيلين معتاداً ، وما أذهب العقل ، واللمس ، هذا على مذهب مالك ، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد ، ولا يراعى المخرج ولا غيره ، ولا يعد اللمس فيها ، وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، والإجماع من الأحداث على تسعة ، أربعة من الذكر ، وهي البول والمني والودي والمذي ، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض ، واثنان من الدبر ، وهما الريح والغائط ، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل ، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعاً ، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم { لامستم } وقرأ حمزة والكسائي «لمستم » وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع ، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه ، إذ في جميع ذلك لمس ، واختلف أهل العلم في موقعها هنا : فمالك رحمه الله يقول : اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين ، فالملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم ، لأن اللمس نقض وضوءه ، وقالت طائفة : هي هنا مخصصة للمس اليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ، ولا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع ، فالجنب يتيمم ، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث ، ولا هو ناقض لوضوء ، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ، ومالك رحمه الله يرى : أن اللمس ينقض إذا كان للذة ، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة ، ولا إذا كان لابنة أو لأم ، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة { النساء } ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه ، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه ، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، واختلف فيه ، فقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديماً ، وهذا قول ضعيف ، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم ، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقالت طائفة : يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعداً ، وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة ، ونحو هذا ، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله ، وقيل لأشهب : أيشتري القربة بعشرة دراهم ؟ فقال ما أرى ذلك على الناس .

قال القاضي أبو محمد : وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته ، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه ، ويترتب أيضاً عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهذا هو الذي يقال فيه : إنه لم يجد ماء ولا تراباً ، كما ترجم البخاري ، ففيه أربعة أقوال ، فقال مالك وابن نافع : لا يصلي ولا يعيد ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد وقال اصبغ : لا يصلي ويقضي ، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء ، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة : إنه يتيمم ولا يعيد ، وقال : إنه يعيد ، وفي الواضحة وغيرها عنه : أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس . وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة ، فقيل : يعيد ، وقيل : لا يعيد ، ومعنى قوله { فتيمموا } في اللغة : اقصدوا ، ومنه قول امرىء القيس [ الطويل ]

تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عُرْمُضُها طَامي{[4071]}

ومنه قول أعشى بني ثعلبة : [ المتقارب ]

تَيَمَّمْت قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ{[4072]}

ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، قاله الخليل وغيره ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]

كأَنَّه بالضُّحى تَرمي الصَّعيدَ بِهِ *** دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ{[4073]}

واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب ، فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض ، تراباً كان أو رملاً أو حجارة أو معدناً أو سبخة ، وجعلت «الطيب » بمعنى الطاهر ، وهذا مذهب مالك ، وقالت طائفة منهم : «الطيب » بمعنى الحلال ، وهذا في هذا الموضع قلق ، وقال الشافعي وطائفة : «الطيب » بمعنى المنبت ، كما قال جل ذكره

{ والبلد الطيب يخرج نباته }{[4074]} فيجيء الصعيد على هذا التراب ، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه ، فمكان الإجماع : أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب ، ومكان الإجماع في المنع : أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف ، أو الفضة والياقوت والزمرد ، أو الأطعمة ، كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات - واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي ، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب ، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد ، ومنعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والثلج في المدونة جوازه ، ولمالك في غيرها منعه ، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان : أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران .

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ بحت من جهات ، وأما التراب المنقول في طبق وغيره ، فجمهور المذهب جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع ، وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان ، الإجازة والمنع ، وفي التيمم على الجدار الخلاف ، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك ، فالجمهور على منع التيمم على العود ، وفي مختصر الوقار{[4075]} : أنه جائز ، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد » اختلافاً : أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية ، وأن «الصعيد » التراب ، وأنه وجه الأرض .

وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور ، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين{[4076]} ، وقاله بعض أهل العلم : قياساً على تنكيس الوضوء ، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء ، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب ، ويتتبعه كما يصنع بالماء ، وأن لا يقصد ترك شيء منه ، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين ، وما بين الأصابع في اليدين{[4077]} ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ، ومذهب مالك في المدونة : أن التيمم بضربتين ، وقال ابن الجهم : التيمم واحدة ، وقال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة أجزأه ، وقال غيره في المذهب : يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، وقال مالك في المدونة : يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى ، ثم يمر كذلك إلى المرفق ، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن ، حتى يصل إلى الكوع ، ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك ، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى ، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة ، قال ابن حبيب : يمر بعد ذلك كفيه ، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف ، قال اللخمي : في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيراً ، وقالت طائفة : يبدأ بالشمال كما في المدونة ، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ ، مشى على الكف ، ثم كذلك باليمنى في اليسرى ، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعاً ، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره ، وقالت طائفة : يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة ، وقال مالك في المدونة : في المذهب بمسح يديه إلى المرفقين ، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، قال غيرهما : في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء ، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر{[4078]} ، وهو قول الشعبي ، وقال ابن شهاب : يمسح إلى الآباط ، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم : إنك لمباركة ، نزلت فيك رخصة ، فضربنا ضربة لوجوهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط ، {[4079]} وفي مصنف أبي داود عن الأعمش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسح إلى أنصاف ذراعيه ، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت ، وما حكى الداودي{[4080]} من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة ، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب ، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق ، وعمم جمهور الأمة{[4081]} ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضاً على القطع{[4082]} ، إذ هو حكم شرعي وتطهير ، كما هذا تطهير ، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين ، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، يجب ولا يجب .


[4055]:- أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه، عن علي بن أبي طالب قال: (صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت: قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [الدر المنثور].
[4056]:- حجته في ذلك ما رواه البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول)، وابن عطية يرى أن قول الضحاك ضعيف لأن الحديث يعطي حكما آخر، وليس شرحا للآية.
[4057]:- نحو: ندمان وندامى، وهو جمع تكسير- عن "البحر المحيط" 3/ 255- أما قراءة الجمهور فهي [سكارى] بالضم، ومذهب سيبويه أنها جمع تكسير، قال في حد تكسير الصفات: "وقد يكسرون بعض هذا على فُعالى، وذلك قول بعضهم: سكارى وعجالى، فهذا نص منه على أنه جمع، ولهذا قال أبو حيان: ووهم الأستاذ أبو الحسن ابن الباذش فنسب إلى سيبويه أنها اسم جمع، قال ابن الباذش: "وهو القياس، لأنه جاء على بناء لم يجئ عليه جمع ألبتة".
[4058]:- يلاحظ أن في هذا تكرارا مع قوله قبل قليل: "وقرأت فرقة: [سَكْرى] بفتح السين على مثال: فعلى".
[4059]:- جاء في اللسان: "وقال سيبويه (عن معنى قوم روْبَى): "هم الذين أسخنهم السفر والوجع فاستثقلوا نوما، ويقال: شربوا من الرائب فناموا، قال بشر: فأما تميم، تميم بن مرّ فألفاهم القوم روْبى نياما ثم قال: "وهو في الجمع شبيه بهلكى وسكْرى، واحدهم: روْبان، وقال الأصمعي: واحدهم: رائب، مثل مائق وموقى، وهالك وهلكى.
[4060]:- الميد: ما يصيب من الحيرة عن السكر، أو الغثيان، أو ركوب البحر، وقد ماد فهو مائد، من قوم ميدى كرائب ورَوْبى، قال الفراء: سمعت العرب تقول: الميْدى: الذين أصابهم الميْد من الدوار (اللسان).
[4061]:- القول الأول هو قول أبي حنيفة، والثاني هو قول الشافعي، وترتب على ذلك الاختلاف في معنى قوله تعالى بعد ذلك: [ولا جنبا إلا عابري سبيل] كما سيأتي.
[4062]:- قال أبو (ح) في "البحر المحيط": هذه حالة معطوفة على قوله: [وأنتم سكارى] إذ هي جملة حالية، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو [ولا جنبا]، ودخول (لا) دال على مراعاة كل قيد منهما بانفراده، وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال بانفراده فالنهي عن إيقاعهما بهما مجتمعين أدخل في الحظر. اهـ 3/ 256.
[4063]:- لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أخرجه مسلم، وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: (يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي). قال أبو عبد الله "يعني البخاري": الغسل أحوط، وذلك الآخر "يريد الرأي الآخر الدال على عدم الغسل" إنما بيناه لاختلافهم، وأخرجه مسلم بمعناه في صحيحه. قال أبو إسحاق: "هذا منسوخ"، وقال الترمذي: "كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ"، وقد كان هناك خلاف بين الصحابة في هذا الموضوع، ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل). أخرجه مسلم. (عن القرطبي)
[4064]:- في اللسان: "وجمل عبر أسفار، وجمال عبر أسفار، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، مثل الفلك، وكذلك عبر أسفار، وناقة عبر أسفار وسفر، وعبر، وعبر: قوية على السفر، تشق ما مرت به، وتقطع الأسفار عليها".
[4065]:- العيرانة: الناجية في نشاط، أو هي الناقة الصلبة تشبيها لها بعير الوحش. والسّرح: السريعة المشي، وشملة بكسر الأول وتشديد اللام: الخفيفة السريعة المشمرة، والهزفّ: الجافي من الظلمان- أو: الطويل الريش، والخاضب: الظليم إذا أكل الربيع فاحمرت ساقاه وقوادمه.
[4066]:-أخرجه ابن جرير عن يزيد بن حبيب. (الدر المنثور)
[4067]:- المريسيع مصغر مرسوع: بئر أو ماء لخزاعة على يوم من الفرع، وإليه تضاف غزوة بني المصطلق.
[4068]:- يريد (عقد) عائشة رضي الله عنها، وفي البخاري، والترمذي، وسيرة ابن هشام أن القلادة كانت لأسماء واستعارتها عائشة، وأنها قد انقطعت، ثم وجدوها تحت البعير.
[4069]:- كل مرماة بالسهم تسمى: غلوة، والجمع: غلوات وغلاء، وفي المثل: جري المذكيات غلاء، ويقال: غلا بالسهم غلوا وغلوا: رفع يديه لأقصى الغاية، وغلا السهم: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى. (القاموس المحيط).
[4070]:- وهي في هذا مثل: ميّت- وقيل: غيط مصدر، إذ قالوا: غاط يغيط، أما (الغائط) فجمعه: الغيطان أو الأغواط، وبه سميت غوطة دمشق.
[4071]:- البيت في وصف ناقته، أو بعض الحمر الوحشية. ومعنى تيممت: قصدت، وضارج: اسم موضع في بلاد بني عبس، والعرمض: الطحلب، وقيل: بل الخضرة على الماء، أما الطحلب فيكون كأنه نسيج العنكبوت، وطامي: مرتفع.
[4072]:- المهمه: المفازة البعيدة، والجمع: مهامهْ، والشزن: الأرض الغليظة والجمع: شزن وشزون. قال الصاغاني: الرواية: تيمم قيسا إلخ، على الفعل المضارع، أي تيمم ناقتي، أي: تقصد. وقبله فأفنيتها وتعاللتها على صحصح كرداء الردن ومثل البيتين اللذين أوردهما المؤلف قول حُميد بن ثور: سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
[4073]:- الصعيد: التراب، أو وجه الأرض، قال تعالى: [فتصبح صعيدا زلقا]، والدبابة: يريد بها هنا الخمر، وقد ورد في بعض النسخ (ذبابة) بالذال المعجمة، والرواية الصحيحة هي ما ذكرناه، وهكذا وردت بالقرطبي، والخرطوم: الخمر السريعة الإسكار-يقول: إن ولد الظبية لا يرفع رأسه، وكأنه رجل سكران صرعته الخمر السريعة الإسكار.
[4074]:- من قوله تعالى في الآية (58) من سورة (الأعراف): {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه}.
[4075]:- الوقار على وزن سحاب: لقب لزكريا بن يحيى بن إبراهيم المصري الفقيه. (عن معلق القرطبي)
[4076]:- أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة- عن عمار بن ياسر قال: (كنت في سفر فأجنبت فتمعكت فصليت، ثم ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول هكذا): ثم ضرب بيده الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه). وتقديم اليدين إنما وقع في بعض الطرق في البخاري. ومعنى (تمعّك): تمرغ في التراب وتقلّب فيه.
[4077]:- في بعض النسخ: "وما بين الأصابع في الرأس"، وهي عبارة القرطبي أيضا، وما ذكرناه أقرب إلى الصواب.
[4078]:- هو الحديث الذي ذكرناه في الهامش رقم (1) في صفة (82)، إذ نصه: "فمسح بهما وجهه وكفيه".
[4079]:- أخرجه ابن جرير- والبيهقي في سننه عن عمار بن ياسر. ثم ذكر صاحب "الدر المنثور" بعد أن أورد الحديث أن الشافعي قال: هذا منسوخ، لأنه أول تيمم كان حين نزلت آية التيمم، فكل تيمم جاء بعده يخالفه فهو له ناسخ، اهـ. (الدر المنثور2/ 167).
[4080]:- عبارة القرطبي: "وحكي عن الداروردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة" وأشار معلقه إلى عبارة ابن عطية.
[4081]:- في بعض النسخ: وعمم جمهور الأمة. وما اخترناه يتمشى مع بقية الكلام، وهو أقرب إلى ما نقله القرطبي عن ابن عطية، فروايته عنه تقول: "وها هنا جمهور الأمة".
[4082]:- روى القرطبي عن مكحول أنه قال: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم، فقال الزهري: المسح إلى الآباط، فقلت عمن أخذت هذا؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} فهي يد كلها، قلت له، فإن الله تعالى يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}- فمن أين تقطع اليد؟ قال: فخصمته.