ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقد مر سبب نزوله في البقرة . وفي لفظ الصلاة ههنا قولان : أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي ، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة . وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى . ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين : إحداهما حالة السكر ، وذلك أن جمعاً من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة ، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها . وثانيهما حالة الجنابة ، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه ، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه . والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين : الأولى حالة السكر أيضاً إلاّ إذا علموا ما يقولون ، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها . والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر . أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة إلاّ ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر . ويجوز أن يكون { إلاّ عابري سبيل } صفة لقوله : { جنباً } أي لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين . إنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها ، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة . ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضاً إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة ، اللهم إلاّ أن يقال : إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولاً .
وسكارى جمع سكران . وقوله : { وأنتم سكارى } في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله : { ولا جنباً } والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب ، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال : إن السكر ههنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق ، فإن السكر عن سد الطريق ، ومنه سكر السبيل سد طريقه . والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو ، فعند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن . والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ومتى استعمل مجازاً فإنما استعمل مقيداً كقوله تعالى :{ وجاءت سكرة الموت }[ ق :19 ]{ وترى الناس سكارى }[ الحج :2 ] وأيضاً أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر ، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مراداً من الآية . ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدوداً إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول . وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر ، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية . ومن قال : إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة ، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخاً ، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا : انتهينا يا رب . والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلاّ أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة . ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة . والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا ، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده . ويحتمل أن يقال : قوله { فلم تجدوا ماءً } ليس قيداً في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء .
ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر . ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف . روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة ، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم ، فاغتسل فمات . فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتلوه قتلهم الله . وقال مالك وداود : يجوز له التيمم بجميع أنواع المرض . وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله :{ ولا تقتلوا أنفسكم }[ النساء :29 ] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله : { أو على سفر } والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان . كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس ، فكنى به عن ذلك . وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر . أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان : أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي . وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية :{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }[ البقرة :237 ]{ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا }[ المجادلة :3 ] عن ابن عباس : إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني ، فعبر عن المباشرة بالملامسة . وأيضاً لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر . ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر : إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله : { أو لمستم } والصحيح أنه ينتقض وضوءهما معاً لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة . قوله : { فلم تجدوا ماءً } قال الشافعي : إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى ، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب . وقال أبو حنيفة : لا يجب بدليل قوله :
{ ولم نجد له عزماً }[ طه :115 ] وسبق الطلب في حقه تعالى محال . وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئاً ثم لم يجد . وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم ، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملاً بظاهر الآية . والتيمم في اللغة القصد .
والصعيد التراب ، " فعيل " بمعنى " فاعل " . وقال ثعلب والزجاج : إنه وجه الأرض تراباً كان أو غيره . ومن هنا قال أبو حنيفة : إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً . وقال الشافعي : لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه }[ المائدة :6 ] ولا يفهم من قول القائل : مسحت برأسي من الدهن إلاّ معنى التبعيض ، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله :{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه }[ الأعراف :58 ] ولأنه صلى الله عليه وسلم خصص التراب بهذا المعنى فقال : " جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً " . أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس : اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح . وقال الشافعي وأبو حنيفة : يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء . وعن الزهري إلى الآباط ، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط ، ثم ختم الآية بقوله : { إنّ الله كان عفواً غفوراً } وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين . عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء . فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، فجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي . فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا . فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء : ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر . قالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .