قوله : { يا أيها الذين آمنوا } جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين ؛ لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر ، وأما الكفار ، فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى . قوله : { لاَ تَقْرَبُوا } قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه . والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة ، وغشيانها . وبه قال جماعة من المفسرين ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال آخرون المراد : مواضع الصلاة ، وبه قال الشافعي . وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف ، ويقوّي هذا قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وقالت طائفة : المراد الصلاة ومواضعها معاً ؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .
قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } الجملة في محل نصب على الحال ، وسكارى جمع سكران ، مثل كسالى جمع كسلان . وقرأ النخعي : «سكري » بفتح السين ، وهو تكسير سكران . وقرأ الأعمش : «سُكْرى » كحبلى صفة مفردة . وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا : سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : المراد سكر النوم . وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال . قوله : { حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر ، أي : حتى يزول عنكم أثر السكر ، وتعلموا ما تقولونه ، فإن السكران لا يعلم ما يقوله ، وقد تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع ؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد . وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والمزني . واختاره الطحاوي ، وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس . وأجازت طائفة وقوع طلاقه ، وهو محكيّ عن عمر ابن الخطاب ، ومعاوية ، وجماعة من التابعين ، وهو : قول أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واختلف قول الشافعي في ذلك . وقال مالك : يلزمه الطلاق ، والقود في الجراح ، والقتل ، ولا يلزمه النكاح ، والبيع .
قوله : { وَلاَ جُنُباً } عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } والجنب لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع ؛ لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب . قال الفراء : يقال جنب الرجل ، وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل عنق ، وأعناق ، وطنب ، وأطناب . وقوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } استثناء مفرّغ ، أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل . والمراد به هنا : السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله : { وَلاَ جُنُباً } لا بالحال الأولى ، وهي قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، وغيرهم ، قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر ، فإنه يتيمم ؛ لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم .
وقال ابن مسعود ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، ومالك ، والشافعي : عابر السبيل هو : المجتاز في المسجد ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة ، وهي : المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأوّل قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي ، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر ، وإن معناه : أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها .
وبالجملة فالحال الأولى ، أعني قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك . وقوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقوّي تقدير المضاف ، أي : لا تقربوا مواضع الصلاة . ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني : { لا تقربوا } وهو قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي وهو قوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان ، وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور .
وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : والأولى قول من قال : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ منْكُمْ من الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صعيداً طيباً } فكان معلوماً بذلك ، أي : أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ } معنى مفهوم .
وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال : والعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً ، يقال منه : عبرت هذا الطريق ، فأنا أعبره عبراً وعبوراً ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار لقوّتها على قطع الأسفار . قال ابن كثير : وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية . انتهى .
قوله : { حتى تَغْتَسِلُوا } غاية للنهي عن قربان الصلاة ، أو مواضعها حال الجنابة . والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل . قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال ، والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير . والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف ، أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفاً في بدنه وهو لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء . وروي عن الحسن أنه يتطهر ، وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] . وقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } [ البقرة : 185 ] قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف مبسوط في كتب الفقه . وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال قوم : لا بد من ذلك . وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر . واختلفوا في الحاضر ، فذهب مالك ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر ، والسفر . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف .
قوله : { أَوْ جَاء أَحَدٌ منْكُمْ من الغائط } هو المكان المنخفض ، والمجيء منه كناية عن الحدث ، والجمع الغيطان ، والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً ، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء . قوله : { أَوْ لامستم النساء } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : { لامستم } وقرأ حمزة ، والكسائي : «لمستم » قيل المراد بها : بها في القراءتين الجماع . وقيل : المراد به : مطلق المباشرة ، وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعاً . وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون : { لامستم } بمعنى قبلتم ، ونحوه ، و«لمستم » بمعنى غشيتم .
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ، قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل ، أو يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقد روي هذا عن عمرو بن الخطاب ، وابن مسعود . قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي ، وحملة الآثار انتهى . وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه ، وتبطله ، كحديث عمار ، وعمران بن حصين ، وأبي ذرّ في تيمم الجنب . وقالت طائفة : هو الجماع كما في قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] ، وقوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وهو مرويّ عن عليّ ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعبيد ابن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حبان ، وأبي حنيفة . وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ ، فإن لمسها بغير شهوة ، فلا وضوء ، وبه قال أحمد ، وإسحاق . وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد ، أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا . وحكاه القرطبي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة . وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى { فلمسوه بأيديهم } [ الأنعام : 7 ] وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك . فقد اختلفت الصحابة ، ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة ، والكسائي بلفظ : «أو لمستم » وهي محتملة بلا شك ، ولا شبهة ، ومع الاحتمال ، فلا تقوم الحجة بالمحتمل . وهذا الحكم تعمّ به البلوى ، ويثبت به التكليف العامّ ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط ، وقد وقع النزاع في مفهومه . وإذا عرفت هذا ، فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ، فكان الجنب داخلاً في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك .
وأما وجوب الوضوء ، أو التيمم على من لمس المرأة بيده ، أو بشيء من بدنه ، فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال . وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً منَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } [ هود : 114 ] . أخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من حديث معاذ ، قالوا : فأمره بالوضوء ؛ لأنه لمس المرأة ، ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء . وأيضاً فالحديث منقطع ؛ لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ، ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا ، فالأصل البراءة عن هذا الحكم ، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة .
وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، ثم يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ . وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ، رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ورواه ابن جرير من حديث ليث ، عن عطاء ، عن عائشة ، ورواه أحمد أيضاً ، وأبو داود ، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني ، عن إبراهيم التيميّ ، عن عائشة ، ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أم سلمة ، ورواه أيضاً من حديث زينب السهمية . ولفظ حديث أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ، وهو صائم ، ولا يفطر ، ولا يحدث وضوءاً . ولفظ حديث زينب السهمية : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ » . ورواه أحمد ، عن زينب السهمية ، عن عائشة .
قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاء } هذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط ، وهو المرض ، والسفر ، والمجيء من الغائط ، وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء ، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح ، كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المقيم ، كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر ؛ فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين : أعني قوله : { أَوْ جَاء أَحَدٌ منْكُمْ من الغائط أَوْ لامستم النساء } كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق عليه اسم المريض ، أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله ، وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبراً في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما . وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط ، وتوجيه بارد . وقال مالك ، ومن تابعه : ذكر الله المرض ، والسفر في شرط التيمم اعتباراً بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر ، فإن الغالب ، وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه . انتهى . والظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم ، وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال ، أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول :
{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } [ البقرة : 185 ] ويقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 87 ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «الدين يسر » ويقول : «يسروا ولا تعسروا » وقال : «قتلوه قتلهم الله » ويقول : «أمرت بالشريعة السمحة » فإذا قلنا : إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم ، والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه ، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب ، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف . وأما وجه التنصيص على المسافر ، فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض .
قوله : { فَتَيَمَّمُوا } التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء : قصدته ، وتيممت الصعيد : تعمدته ، وتيممته بسهمي ، ورمحي : قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل :
يممته الرمح شزرا ثم قلت له *** هذي البسالة لا لعب الزحاليق
تيممتها من أذرعات وأهلها *** بيثرب أدنى دارها نظر عالي
تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظل عرمضها ظامي
قال ابن السكيت : قوله : { فَتَيَمَّمُوا } أي : اقصدوا ، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب . وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل : معناه قد مسح التراب على وجهه ، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي . فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وتفاصيل التيمم ، وصفاته مبينة في السنة المطهرة ، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه ، قوله : { صَعِيداً } الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج . قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 8 ] أي : أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً ، وقال تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] وقال : ذو الرمة :
كأنه بالضحى يرمي الصعيد به *** ونابه في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيداً ؛ لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات .
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والطبري : إنه يجزئ بوجه الأرض كله تراباً كان ، أو رملاً ، أو حجارة ، وحملوا قوله : { طَيّباً } على الطاهر الذي ليس بنجس ، وقال الشافعي ، وأحمد ، وأصحابهما : إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : { صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] أي : تراباً أملس طيباً ، وكذلك استدلوا بقوله : { طَيّباً } قالوا : والطيب التراب الذي ينبت .
وقد تنوزع في معنى الطيب ، فقيل : الطاهر كما تقدم وقيل : المنبت كما هنا وقيل : الحلال . والمحتمل لا تقوم به حجة ، ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز ، لكان الحق ما قاله الأوّلون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله : «فضلنا الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء » وفي لفظ «وجعل ترابها لنا طهوراً » فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم بالصعيد ، أي : أخذ من غباره . انتهى . والحجر الصلد لا غبار له . قوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } هذا المسح مطلق ، يتناول المسح بضربة أو ضربتين ، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بياناً شافياً ، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة ، وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . قوله : { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي : عفا عنكم ، وغفر لكم تقصيركم ، ورحمكم بالترخيص لكم ، والتوسعة عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني ، فقرأت : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه : أن الذي صلى بهم عبد الرحمن . وأخرج ابن المنذر ، عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، صنع لهم عليّ طعاماً ، وشراباً ، فأكلوا ، وشربوا ، ثم صلى بهم المغرب ، فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها ، فقال : ليس لي دين ، لكم دين ، فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها : { إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر إنما عني بها سكر النوم . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس : { وَأَنتُمْ سكارى } قال : النعاس .
وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ عن عليّ .
قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة ، فيتيمم ويصلي . وفي لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيتيمم ، ويصلي حتى يجد الماء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس في الآية يقول : لا تقربوا الصلاة ، وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء ، فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد قال : لا يمرّ الجنب ، ولا الحائض في المسجد ، إنما أنزلت : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } للمسافر يتيمم ، ثم يصلي . وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد ، فأموت ، أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ، فقال : " يا أسلع ، ما لي أرى راحلتك تغيرت ؟ " قلت : يا رسول الله لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم ؟ " قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجاراً ، فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت به ، فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } .
وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : «كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة : " يا أسلع قم ، فارحل لي ، " قلت : يا رسول الله أصابتني جنابة ، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد ، فقال : " قم يا أسلع فتيمم " الحديث . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس : { لاَ تَقْرَبُوا الصلاة } قال : المساجد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ من طريق عطاء الخراساني عنه : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا تدخلوا المسجد ، وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمرّ به مرّاً ، ولا تجلس . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد ، ولا يجلس فيه ، ثم قرأ قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } . وأخرج البيهقي ، عن أنس نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن جابر قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد ، وهو جنب مجتازاً .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً ، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } قال : هو الرجل المجدور أو به الجراح ، أو القرح يجنب ، فيخاف إن اغتسل أن يموت ، فيتيمم . وأخرج ابن جرير ، عن إبراهيم النخعي قال : نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } الآية .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله : { أَوْ لامستم النساء } قال : اللمس ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويقول هي : اللماس . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن عمر قال : إن القبلة من اللمس ، فتوضأ منها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن علي قال : اللمس هو الجماع ، ولكن الله كنى عنه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير قال : كنا في حجرة ابن عباس ، ومعنا عطاء بن أبي رباح ، ونفر من الموالي ، وعبيد بن عمير ، ونفر من العرب ، فتذاكرنا اللماسّ ، فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد ، وقال عبيد بن عمير ، والعرب : هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس ، فأخبرته فقال : غلبت الموالي وأصابت العرب ، ثم قال : إن اللمس ، والمسّ والمباشرة إلى الجماع ما هو ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث .