الآية 43 وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى } اختلف في قوله { ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى } قيل : لا تدنوا مكان الصلاة ، وأنتم سكارى ، نهى عن الصلاة في حال السكر . وكذلك الجنب لا يدنوا مكان / 96 –أ/ الصلاة ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وقيل : { لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى } روي أن رجلا صنع طعاما فدعا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسعد ابن أبي وقاص فآكلوا وسقاهم خمار ، وذلك أن قبل يحرم فحضرت صلاة المغرب فأمهم رجل منهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } ( الكافرون 1 ) بطرح اللاءات فنزل قوله تعالى { لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى } ( بنحوه السيوطي في الدر المنثور 2 / 545 ) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[5635]} قال : " لا يلسن أحدكم وهو لا يعقل صلاته " ( ب نحوه إحياء علوم الدين 1/ 252 ) .
في الآية دلالة أن في الصلاة قولا وفرضا نهى ع ن قربانها في حال السكر مخافة تركه ، أو نهى عن قربانها في حال السكر خ وفا ان يدخل فيها قولا منها . وفي ذلك دليل ف ساد الصلاة بالكلام عمدا ، كان خطأ لان السكران لا يفعل ذلك على العمد ، ولكن على الخطأ .
والأصل في هذا أنه لم ينه{[5636]} عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة ، ولكن نهى عن السكر وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة للعبد الآبق ولا للمرأة الناشزة " ( بنحوه مسلم 80 وليس فيه ذكر المرأة ) ليس النهي فيه عن الصلاة ولكن النهي عن الإباق والنشوز نفسه . وهكذا كل عبادة{[5637]} نهى عنها بأس باب تتقدم فالنهي{[5638]} إنما يكون عن تلك الأسباب لا عن العبادات التي أمرها لأن الإباق والنشوز والسكر ( ليست بالتي تعمل ) {[5639]} في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادات .
وفي الآية دلالة أن السك ران مخاطب بقوله : { لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى ) نهي قربان الصلاة في حال السكر{[5640]} فالنهي إنما وقع في حال السكر فإذا كان مخاطبا عمل طلاقه ونفذت عقوده . ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله } ( المائدة 91 ) يعني ولا ذكر عليهم ؟ دل أنه مخاطب . ولهذا ما قال أبو يوسف رحمه الله : إذا ارتد عن الإسلام ( فلا ) {[5641]} يكون ارتداده ارتداد ، ولما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه فعلى ذلك لارتداد وعلى قول أبي حنيفة ( رحمه الله ) {[5642]} لا يصير مرتدا استحسانا ليس كسائر العقود والفسوخ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان . وإن كان رضا القلب مشروطا فيها ، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب وإن كانت{[5643]} العبارة باللسان ( فتكون ) {[5644]} شرطا في ما بين الخلق . فإذا كان كذلك : فإذا سكر يذهب السكر القلب ، فجعل كأنه لم ينطق وأما ( ما ) {[5645]} كان سائر العقود تتعلق باللسان ، فإذا نطق ( بها جازت ) {[5646]} والله أعلم .
واختلف{[5647]} في قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } منهم من حمل على مكان الصلاة غذ الصلاة فعل ، والفعل لا يقرب ، ومنهم من حمل على الفعل أي لا تصلوا . أي الوجهين أريد به ، فالآخر داخل فيه لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة وأحق في المنع . أيد ذلك قوله سبحانه وتعالى : { حتى تعلموا ما تقولون } والعلم بالقول يحتاج في حق الفعل لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد أو يدخل المحرم وفي ذلك دلالة أحد الوجهين وفي حق العموم الوجهان جميعا ، وهو على الخطأ يقول ، فثبت ان الخطأ من القول في الصلاة مفسد ، إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي . وفي التأخير نهي أيضا والله أعلم . ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها ، فلا وجه للحضور دون مكان الفعل ، والله أعلم .
وعلى ذلك أمر الجنب واستثناء عابري السبيل ليكون على فعل الصلاة باليتيم فيكون في الآية دلالة اليتيم للجنب أو ( عابري ) {[5648]} المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه باليتيم ، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه ، إذا كان فيه ، والله أعلم ، وإذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا باليتيم فثبت ان اليتيم قد جعل له الطهارة فله الصلاة به ليعذر والله أعلم .
ثم في المروي دلالة أم في المغرب ب { قل يا أيها الكافرون } ( الكافرون1 ) على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه إذا خاطبهم باسم الإيمان . فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة ، رحمه الله ، كافرا على ان المخطئ لما يجري على لسانه كلمة لا يصير كافرا في الحكم ، والسكران يجري على لسانه على الخطأ ، دليله ما لا يذكره ، وما كان من عقد القبل ، فهو لا ينسى ، ولخاصة المذاهب كلها يختار عن ذكر الأسباب وعن اختيار الأحق من الأمور عنده لحجته أو شبهة أو شهوة من نحو الغ لف بالتقليد وحين الظن ، والذي يكون على ما ذكرت لا يحتمل السهو عنه لا يخطر بباله ، لو أراد بدعوة عن قريب ثبت أنه كان عن خطأ وقد جاء برفع{[5649]} الخطأ وأصله ( أن ) {[5650]} الإنسان معبر عن الاعتقاد في أمر ( الدين وبخاصة ) {[5651]} في الكفر الذي يكون بالقلب خاصة بلا استعمال اللسان دون القلب الذي اللسان دون القلب عنه معبر . ومن عبر ( عن ) {[5652]} الكفر باللسان . ووصفه لا يكفر إلا بأن يكون يعبر عن نفسه أنه اعتقده فلذلك كان على ما بيننا على انه قد يجري بتلاوة القرآن على اللسان بالغلط ما يكفر عليه بالتعمد ، فلا يجوز أن تجعل تلاوته للتعظيم ، والإيمان بها{[5653]} كفر ثبت بذلك ورفع حكم الكفر عمن أخطأ في إجرائه على اللسان فمثله السكران إذ هو مخطئ والله أعلم . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : { ولا جنبا إلى عابري سبيل } عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( هو أن يكون مسافرا ولا يجد الماء فيتيمم } وعن ابن عباس رضي الله عنه ( أنه ) {[5654]} قال : ( هو المسافر ) . وقيل : { ولا جنبا إلا عابري سبيل } نهى أن يدخل المسجد ومكان الصلاة { إلا عابري سبيل } إلا مجتازا . ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد يقول : إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد فأما المار لأمر يعرض له فقد رخص له . ألا ترى أن الجنب رخص له أم يقرأ بعض الآية ؟ ولا يجوز أن يتمها ( فمروه في المسجد ) {[5655]} إذا لم يجلس فيه كقراءته بعض الآية إذا لم يتمها وعلى ذلك أمر الجنب واستثناء عابري السبيل يكون على فعل الصلاة باليتيم ، فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب ، والمكان فيباح الدخول على العبور فيه بالتيمم أيضا ، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه إذا كان منه بالتيمم وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة فله الصلاة به لعذر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط } الآية أباح الله تعالى للمريض المقيم أن يتيمم . والآية ذكرت المرض عاما . وأجمعوا ان المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم إنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر الماء إن هو توضأ به . فدل أن الله تعالى لما{[5656]} أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض ، ولكنه لمنى في المرض . دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض ، وإنما يبيح لمريض دون مريض .
وفيه دليل ( قالوا أبو ) {[5657]} حنيفة رضي الله عنه حين أباح للمقيم الجنب التيمم إذا خاف على نفسه الهلاك . ألا ترى أنه لا يباح له التيمم في الأمصار وإن كان اسم السفر موجودا لعدم معنى السفر ؟ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض{[5658]} ألا ترى أنه ذكر مجيئه من الغائط ؟ والغائط هو المكان المطمأن الذي فيه يقضي الحاجة ولا كل من جاء من ذلك المكان يلزمه الوضوء والتيمم دل أنه لمعنى فيه . فعلى ذلك الأول .
" وروي أن جريحا غسل ، فمات فبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتلوه فإنما ( يكفيه كف من تراب وكذلك غسل محدود إنما ) {[5659]} يكفيه كذا ، ونحو هذا " ( بنحوه أبو داوود 336 ) /96 –ب / فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لعين المرض والسفر والغائط لما ذكرنا أن كل مريض يباح له التيمم وإنما يباح لمريض دون مريض وكذلك لم يبح لكل سفر ( ومكان وإنما أبيح لسفر ) {[5660]} دون سفر ومكان دون مكان وهو المكان الذي يعدم الماء ويفقد فعلى ذلك المراد من قوله : { او لمستم النساء فلم يجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } عين اللمس وهو الجماع وكذلك روي عن ( ابن ) {[5661]} عباس رضي الله عنه ( أنه ) {[5662]} قال : { الملازمة والمباشرة والإفضاء والجماع النكاح ولكن الله تعالى كنى ) وعن الحسن وعبيد بن عمرو وعطاء ( أنهم ) {[5663]} قالوا : الملامسة الجماع .
وإن قيل ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد ذكرها غيرها ؟ قيل : الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب{[5664]} أحواله يعجز المرء عن إصابة الماء وكذلك السفر في أغلب أحواله يعجز صاحبه عن الماء فخرج الذكر على أغلب الأحوال وكذلك { من الغائط } الأغلب أنه يجيء عن قضاء الحاجة ، لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة ، وكذلك الملامسة من الزوجين الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة . فعلى ذلك خرج الذكر واحتمل غيره . وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظاهر والعموم ( في حق ) {[5665]} المخرج باطل لما لا يجوز لأحد ان يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول : على كل مريض أو على كل مسافر إلا كذا .
ثم اللمس إذا أريد به الجماع فهو ممكن لوجهين :
أحدهما : البلية بالقبلة واللمس باليدين للزوجين ظاهر{[5666]} لا يحتمل أن يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام فلو كان الوصف فيه ( محتملا لذكر ) {[5667]} لأن ما لا يحتمل ترك إظهار الربيان حتى يلزم أكثر الأئمة المنكر في فعل الصلة ، والله أعلم .
والثاني : أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذي به بين الذكور والإناث فهو بحق الكفاية عن الجماع وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه نحو المباشرة والغشيان ونحو ذلك . وبه قال من أجاز التيمم للجنب في حث الصلاة من الصحابة رضوان الله عليهم والله أعلم .
وإن يريد غير الجماع مما قدم يحتمل وجوها ، فهولا يجمع الكل ولكن يرجع إلى خاص وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن وهي المباشرة الفاحشة دليله ذكر المرض والسفر على غير إقران الحكم بنفسه إذ هما{[5668]} اسمان لوجوه فانصرفا إلى غاية ماله وقعت الرخصة من العجز والعدم فمثله أمر الوضوء في الأول والله أعلم .
وقوله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا } ( قيل التيمم القصد ){[5669]} يقال : تيممت الصعيد ، وأممته لغتان وقوله { فتيمموا } وتعمدوا { صعيدا طيبا } فإذا كان التيمم القصد فالتعمد{[5670]} إلى الصعيد لم يجز إلا بالنية لأنه عز وجل أمر بالقصد إليه والتعمد وذلك أمر بالنية لأن القصد نية .
وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه : تأموا صعيدا طيبا أي اقصدوا قصده .
والصعيد قيل : هو وجه الأرض ، وسمي صعيدا لما يصعد عليها وقيل هو الأرض التي تنبت ألا ترى أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[5671]} قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا إلا السبخة والمقبرة " ؟ ( البخاري 335 و438 ) وقيل : ( لأنهما ملعونتان ) {[5672]} ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة لأنها تطيب ما ينبت .
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه قال : الطيب هو الطاهر الحلال له أن يتيمم به إذا عدم الماء والطيب اسم ما حمل من المقصود فيه . والمقصود في التيمم الطهر فهو الطهور والطاهر وأيده الخبر الذي ذكر من جعل الأرض طهور ا والله اعلم .
وقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } الأمر يقع بمسح الأيدي على الذراعين دون الكفين دليله أمر الوضوء انه بغسل الذارعين وقت غسلهما ، فالذراعان دخ لتا في المسح بذكر اليدين{[5673]} وكذلك في الوضوء لان الكفين يغسلان قبل غسل الوجه فالأمر بغسل اليدين{[5674]} يقع على الذراعين وما وراء ذلك .
وعن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي جهينة ( أنه ) {[5675]} قال : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غائط وبول فلمست عليه فلم يرد علي السلام فضرب باليدين{[5676]} الحائط ضربة فمسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفق ين ثم رد السلام " ( ابن ماجه 351 ) وهكذا يقول أصحابنا رحمهم الله بالضربتين : ضربة للوجه وضربة للذراعين : الأصل أنه قال الله عز وجل : في الوضوء : { وأيديكم إلى المرافق } ( المائدة 6 ) ( وهو ) {[5677]} أنه في وقت الأمر يفضل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق ( غسل الذراعين ) {[5678]} إذ قضى فرض غسلهما من قبل فصارت الآية كأنها في حق الذراعين{[5679]} بالأمر بغسل اليدين{[5680]} وعرف بذلك ( الكفين لا بالذراعين ) {[5681]} فمثله أمر التيمم ، وصارت الآية كأنها في حق الذراعين{[5682]} ودخل الكفان{[5683]} في ذلك بالخبر على أمر الطهارة في ما أضيف إلى عضو أو بدن لم يجد ( الماء ) {[5684]} لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقها نحو الجنابة والوجه والرأس ، فكذلك أمر اليدين{[5685]} في التيمم لكن قصر عن التمام بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا ما لا شك في قضاء حكم الوضوء وليس هو في بعض اليدين{[5686]} فلا يجعل في ما ليس فيه بدنه إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل لا الزيادة عليه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إن الله كان عفوا } لما مضى من الذنوب { غفورا { لما يستقبل والعفو والصفح والمحو والغفر الستر هو يعفو عنه ، ويستر على صاحبه ، والعفو هو التجاوز فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد .