الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمرة ، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى ، فلا يدرون كم يُصلّون ، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } نشاوى من الخمر ، جمع سكران ، وقرأ النخعي : ( جُنباً ) وهما لغتان .

{ حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } وتقرؤون في صلاتكم ، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة ، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة . سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ، قال : لم يعنِ سكر الخمر ، إنّما يعني سكر النوم .

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة ، فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس ، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه " .

هشام بن عروة أيضاً عن أبيه عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس الرجل وهو يصلّي ، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري " .

همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه ، فلم يدرِ ما يقول ، فليضطجع " .

وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال : هو الحاقن ، دليله قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يصلينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين " .

{ وَلاَ جُنُباً } نصب على الحال ، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب ، وقرأ إبراهيم النخعي : ( جُنْباً ) بسكون النون ، يقال : رجل جنب ، ورجلان وامرأتان جُنب ، ورجال ونساء جُنب ، والفعل منه أجنب يجنب ، وأصل الجنابة البُعد ، فقيل له : جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } واختلفوا في معناها ، فقال : بعضهم : الاّ إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا ، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير .

وقال الآخرون : معناه إلاّ مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد ، فيجنب ، أو يكون الماء فيه ، أو يكون طريقه عليه ، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يُقيم ، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله

{ صَلَوَاتٌ } [ البقرة : 157 ] اي موضع الصلوات ، وهذا قول عبد الله وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي ، يدلّ عليه ماروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فيصيبهم الجنابة ، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّاً للماء إلاّ في المسجد ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .

وأصل العبور : القطع يقال : عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما .

{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى } جمع مريض . إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إنّ مسجدي حرام على كلِّ حائض من النساء ، وعلى كلِّ جُنب من الرجال إلاّ على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام " .

وأراد به مرضاً يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح ، أو كسر قد وضع عليه الجبائر ، فإنّه رخّص له في التيمّم ، هذا قول جماعة من الفقهاء ، إلاّ ما ذهب [ إليه ] عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء ، واحتّجا بقوله تعالى

{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } [ النساء : 43 ] ، وهذا واجد الماء .

وهذا غلط ، لما روى عطاء عن جابر قال : " خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسلَ ، فمات ، فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك ، فقال : " قتلوه قتلهم الله ، هلاّ سألوا إذا لم يعلموا ، فإنّما شفاء العىّ السّؤال ، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده " " .

{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } طويلا كان أو قصيراً ، فله التيمّم عند عدم الماء ، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يُعدم فيه الماء ( عادة ) ، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأساً ، أو في قرية فانقطع ماؤها ، ففيه ثلاث مذاهب : ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة ، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه ، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي ، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي .

{ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ } قرأ الزّهري : ( من الغيط ) ، والغيط والغوط والغائط كلُّها بمعنًى واحد ، وهي الخبت المطمئن من الأرض ، وقال مجاهد : هو الوادي ، الحسن : الغور من الأودية ، وتصوّب . المؤرّخ : قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها ، وجمعها غيطان ، والفعل منه ( غاط يغوط ) ، مثل ( عاد يعود ) . وتغوّط يتغوّط ، إذا أتى الغائط ، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحدث بالغائط مثل العذرة والحدث ، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن .

{ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ } قرأ حمزة والكسائي وخلف : ( لمستم ) بغير ألف هاهنا ، وفي المائدة وهو اختيار أبي عبيد ، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم .

واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وقال سعيد بن جبير : ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع ، وقال ناس من العرب : هو الجماع ، فأتيت ابن عباس فذكرت له ، فقال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : من الموالي .

قال : غُلب فريق الموالي ، إنّ اللمس والمسّ والمباشرةَ الجماعُ ، لكنّ الله يكنّي عمّا يشاء بما يشاء ، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع ؛ لأنّ اللمس يوصَل إليه ، كما يقال للسّحاب : سماء ، وللمطر : سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر ، وبالمطر يوصل إلى الكلأ ، قال الشاعر :

إذا سقط السّماء بأرض قوم *** رعيناه وإنْ كانوا غضابا

وقال الآخرون : هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم .

واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب ، فقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة .

وقال الأوزاعي : إن كان للمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه ، فأجراه مجرى مسّ الفرج .

وقال مالك والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه : إذا كان اللمسّ للشهوة نقض ، وإنْ كان لغير شهوة لم ينقض ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنْ كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلاّ لم تنقض ، والملامسة الفاحشة : ما تحدث الإفساد .

وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال ، وبه قال من الصحابة ابن عباس ، ومن التابعين الحسن البصري ، وإليه ذهب محمد بن الحسين .

وعن الثوري روايتان : إحداهمها هذا ، والثانية مثل ( قول مالك بدليل الشافعي من الآية ) أنّ الملامسة باليد ما روي " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيع الملامسة ، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد " ، وأنشد الشافعي :

لمست بكفي كفّه طلب الغنى *** ولم أدر أن الجود من كفّه يُعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدت وأعداني فأنفقت ما عندي

روى الزهري عن سالم عن أبيه قال : جسها بيده من الملامسة ، ويدل عليه ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ " أنّ رجلا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلاّ الجماع ، فقال : " يتوضّأ وضوءاً حسناً " ، فثبت أنّ اللمسّ ينقض الوضوء .

احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها ، بما روى مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت : " كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلىّ ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح " .

وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت :

" إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله " .

وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت : " فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول : " أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من غضبك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " .

وفي بعض الاخبار : فلما فرغ من صلاته قال لي : " " يا عائشة أتاكِ شيطانكِ ؟ " ، قالوا : فلمسته عايشة وهو في الصلاة فمضى فيها " .

ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء . روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ " .

وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه : لمس ينقض الوضوء قولا واحداً ، ولمس لا ينقض الوضوء ، ولمس مختلف فيه ، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة [ . . . . ] متعمداً حية كانت أو ميتة ، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر ، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة ، أو امرأة كبيرة ، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها ، ( وفيه ) قولان : أحدهما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد [ . . . . ] ، والثاني لا ينقض لانّه لا تدخل للشهوة فيهن ، يدلّ عليه ما روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس ، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها " وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن حائل ، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقاً أو رقيقاً ، هذا قول الجمهور .

وقال مالك : ينقضها إن كان رقيقاً ولا ينقضها إن كان صفيقاً ، وقال الليث وربيعة : ينقضها سواء كان صفيقاً أو رقيقاً ، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية { لاَمَسْتُمُ } فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل ، وعليه إنّه لو حلف ألاّ يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث .

فهذا كلّه حكم اللامس ، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا ؟ فعلى قولين للشافعي :

أحدهما : أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ .

والثاني : لا ينتقض لخبر عائشة : " فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم .

قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأُمة لما روى ربّعي بن خمّاش ، عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" فُضّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، جُعلت الأرض لنا مسجداً ، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " .

وأما بدء التيمّم فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : " كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء ، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء ، فصلّ ، أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه فالتُمس ، فلم يوجد ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتوا ليلتهم تلك ، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر ، فقالوا : ألا ترى إلى عائشة حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء ؟ فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني ، وقال : ما شاء الله وقال : قبّحها الله من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة ، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك إلاّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله عزّ وجلّ آية التيمّم " .

قالت : فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ، فقال أُسيد بن حضير : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم الله خيراً ، فوالله ما نزل بكِ أمر قط تكرهينه إلاّ جُعل لكِ وللمسلمين فيه خيرٌ .

فأباح الله تعالى التيمّم لخمس شرائط :

أحدها : دخول وقت الصلاة ، فلا يجوز التيمّم إلاّ بعد دخول وقت الصّلاة ، وقد يجمع بالتيمم بين صلاتي فرض ، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل ، قالوا : لأنها طهارة ضرورة ، فقسناها على المستحاضة ، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا " .

وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليَ رضى الله عنه قال : " تيمّموا لكلِّ صلاة " .

وروى ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس قال : بل تتيمم لكلِّ صلاة وإن لم تحدث .

وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمساً من الفرايض والنوافل ، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج " .

والشرط الثاني من الشرايط المبيحة للتيمم : طلب الماء ، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإنْ لم يجد طلب من أصحابه ، فإنْ لم يجد عندهم طلبَ يميناً وشمالا ووراء وأمام ، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر ، فإنْ رأى إنساناً قادماً فليتعرّف منه ، فإنْ تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء .

وقال أبو حنيفة : طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب ، فان تيمم قبله أجزأه ، لأنه لو كان شرطاً فيه لكان شرطاً في النافلة لعدم الماء ، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضاً للفريضة دونه ، دليلها قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } ، ولا يقال : لم يجز إلاّ لمن طلب الماء ، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيتاً فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن .

والشرط الثالث : إعوازه بعد طلبه ، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء ، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه ، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه .

والشرط الرابع : العذر من مرض أو سفر لقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } .

والمرض على ثلاثة أضرب : مرض لا يضرّ استعمال الماء معه ، فلا يجوز التيمم معه ، وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم ، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّمَ ، وأعاد إذا قدر على غسل الدم ، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء ، والمتعيّن فيه أوجه :

الأول : أنه يجوز التيمم ، وهو مذهب أبي حنيفة .

والثاني : أنه لا يجوز فإنْ كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض ، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم ، ولا يجزيه أحدهما دون الآخر ، وقال أبو حنيفة : إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء ، ولم يُجزِهِ معه التيمم ولا دونه ، وإن كان أكثر بدنه جريحاً يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع .

قال : ( ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها ) ، وكذلك لو وجد الجُنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه ، ولا الجُنب لأغساله ، وللشافعي فيه قولان :

أحدهما : أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني .

والقول الثاني : يلزمه استعمال القدر الذي وجده ، والتيمم كما حُدّثته ، وإن كان جُنباً غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين ، وإن كان محدثاً غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء ، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها .

وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها ، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر ، ولا يضعها إلاّ على وضوء كالخفين ، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقياً ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلاّها بالمسح على الجبائر أم لا ؟ فيه قولان :

أحدهما : عليه الإعادة .

والثاني : لا إعادة عليه ، وهو اختيار المزني ، والدليل عليه ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزماً انكسر إحدى زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر ، قال الشافعي : إن صح حديث عليّ قلت به ، وهذا مما استخير الله فيه . وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر ؛ فإن لم يخشَ تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها ، وإن خاف على ذلك لم ينزعها ، ولكنه يغسل ما يقدر عليه ، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها .

وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر ، طالت أو قصرت ؛ لأنّ الله تعالى لم يفرّق بينهما ، دليله ما أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر : إنّه أقبل من الجُرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر ، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ، فلم يُعد الصلاة ، والجرف قريب من المدينة .

والشرط الخامس : النية المكنونة .

وقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } عنى : اقصدوا تراباً طيباً ، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب :

قال أبو حنيفة : يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها ، وإن لم يعلق بيده منها شيء ، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق ، بل وحتّى الغبار ، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه ، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه ، لإنّه ليس من جنس الأرض .

قال مالك : يجوز بالأرض وبكلِّ ما اتّصل فيها ، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر ، فقال : لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه .

وقال الأوزاعي والثوري : يجوز بالأرض وبكلِّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه ، واحتجوا بما روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة ، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو جهيم : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه " .

وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا ؛ لأن الله عزّ وجلّ قال : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فالصعيد اسم التراب ، والطيب اسم لما ينبت ، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب ، والدليل عليه قوله تعالى :

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [ الأعراف : 58 ] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " جُعلتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً " ، فخصّ التراب ذلك ، والله أعلم .

{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } وقد مضى الكلام في الممسوح به ، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم ، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب :

فقال الزهري : تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب ، واحتجّ بما روى عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها ، فاحتبسوا في طلبه يوماً ، قال : فنزلت آية التيمم ، فضربوا بأيديهم إلى الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ، ولم يقبضوا من التراب شيئاً ، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ثم بطون أيديهم إلى الآباط .

وقال ابن سيرين : ثلاث ضربات : ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وضربة للمرفقين ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله ، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي ، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث ، رضي الله عنهم ، واحتجوا بما روى الأعرج عن أبي الصمّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمّم فمسح وجهه وذراعيه " .

وروى أبو أُمامة وابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمّم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارجل بنا يا أسلع " . فقلت : أنا جُنب . فسكت ، إلى مكة فنزلت آية التيمّم ، فقال : " يكفيك هذا " . فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ؛ ظاهرهما وباطنهما . وقال عليٌّ كرم الله وجهه : " هو ضربتان : ضربة للوجه وضربة للكفين " " .

وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بقول الله تعالى :

{ وَأَيْدِيكُمْ } [ النساء : 43 ] ، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع ، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع ، وقد قال الله تعالى :

{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، فاحتجوا بما روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : " ضربة للوجه والكفين ، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث " .

فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلاّ ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : لا يحقّ للجُنب التيمّم ، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وقال مفسرّاً قوله عزّ وجلّ : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ } أراد اللمس باليد دون الجماع .

وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي " أنّ رجلا سأل عمر عن جُنب لا يجد الماء ، فقال : لا يصلّي حتى يجد الماء ، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر حين بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : " قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا " . وضرب بيده على الأرض فمسح وجهه وبدنه ؟ فقال : اتّقِ الله يا عمار ، فقال : إن شئت لم أذكره أبداً " .

وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي ، قال : كنت عند عمر رضي الله عنه ، فسأله أعرابي فقال : " إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء ، فقال : أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ ، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل ؟ فقال : بلى . قال : فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فضحك ، وقال : " كان يجزيك هكذا " . وبسط عمّار كفيه ، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأُخرى فمسح بهما وجهه ، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير ، فقال عمر : اتّقِ الله يا عمار . فقال : يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبداً ، قال : لا بل نولّيك ( ما تولّيت ) " .

وروى الأعمش عن شقيق قال : " كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، الرجل جُنب فلا يجد الماء أُيصلّي ؟ فقال : لا . فقال : أما تذكر قول عمار لعمر : بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : " كان يكفيه هكذا " . وضرب بيديه الأرض فسمح وجهه ويديه ؟ " فقال : لم أر عمر قنع بذلك ، قال : فما يصنع بهذه الآية { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } ؟ فقال : أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد ، قال الأعمش : فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلاّ حباً له ، قال : يدلّ علي أن صلاة الجُنب بالتيمّم جايز ، ما روى ابن عوف عن أبي رجاء ، قال : سمعت عمران بن حصين يقول : " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصلِّ في القوم ، فقال : " يا فلان ، ما منعك أن تصلّي مع القوم ؟ " . فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : " عليك بالصعيد فإنّه يكفيك " " .

وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال :

" صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجل جُنب ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتيمّم ويصلّي ، فلمّا وجد الماء أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد " .

عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين " .