الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

قوله : ( يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية [ 43 ] .

( جُنُباً ) و( عَابِرِي سَبِيلٍ ) نصب على الحال( {[12520]} ) .

ومعنى ( سُكَارَى ) أي : من الخمر ، وهذا قبل تحريم الخمر فأمرهم الله ألا يقربوها ، وهم سكارى حتى يعلموا ما يقولون .

وقيل : إن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر قبل تحريمها ، فصلى بهم أحدهم فقرأ : ( قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ ) فخلط فيها ، فنزلت الآية ، ينهاهم( {[12521]} ) عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلموا ما يقرأون( {[12522]} ) ثم نسخ شربها بالتي في المائدة( {[12523]} ) .

وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " فِيَّ أنزلت الآية " ( لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) قال : دعانا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طلحة وغيره( {[12524]} ) فأكلنا وشربنا . فقدموني إلى الصلاة فقرأت فيها : ( قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما تعبدون ) فكان هذا تحريم الخمر( {[12525]} ) . وقيل هي محكمة .

ومعنى السكر هنا : " السكر من النوم " ( {[12526]} ) ، قاله الضحاك( {[12527]} ) .

وعلى القول الأول أكثر أهل التفسير والعلماء لتواتر الأخبار أنها نزلت في الخمر قبل تحريمه .

قوله : ( وَلاَ جُنُباً اِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) أي : لا تقربوها جنباً إلا أن تمروا [ ب ]( {[12528]} ) موضعها مجتازين حتى تغتسلوا .

وقيل المعنى : في ( اِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) أي : إلا أن تكونوا مسافرين فتتيمموا( {[12529]} ) لها( {[12530]} ) . وقال علي بن أبي طالب وقاله مجاهد وابن جبير قال : هو( {[12531]} ) الرجل يكون في السفر تصيبه جنابة فيتيمم ويصلي . وعليه جماعة من أهل التفكير فيكون المعنى لا تصلوا وأنتم جنب( {[12532]} ) إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء( {[12533]} ) ، وقيل : معنى لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً إلا عابري سبيل أي : أن تكونوا مجتازين في المسجد( {[12534]} ) .

[ قال ابن عباس ( اِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ )( {[12535]} ) . قال لا تقربوا( {[12536]} ) المسجد إلا أن يكون طريقك فتمر فيه مراً ولا تجلس ، وقال النخعي : يمر فيه إذا لم يجد طريقاً غيره( {[12537]} ) .

وقال ابن زيد : نزلت في رجل من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، وكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، يريدون الماء فلا يجدون ممراً ، إلا المسجد ، فأنزل الله عز وجل ( وَلاَ جُنُباً اِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) رخصة لهم( {[12538]} ) .

وذهب مالك والشافعي أن الجنب يمر في المسجد عابر سبيل( {[12539]} ) .

قال مالك : لا تدخل الحائض المسجد ، وأرخص لها غيره أن تمر فيه كالجنب( {[12540]} ) .

وقال ابن حنبل : إذا توضأ الجنب فلا بأس أن يجلس في المسجد( {[12541]} ) .

وكذلك قال إسحاق .

والجنب هنا من أنزل في قول جماعة من العلماء دون أن يجامع ولا ينزل ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

" الماء من الماء " ( {[12542]} ) فلا غسل عليه إلا بإنزال الماء عند جماعة من الصحابة هو قول علي وابن مسعود والخدري وابن عباس وأُبي بن كعب ، وسعد بن أبي وقاص( {[12543]} ) ، ورافع بن خديج( {[12544]} ) ، وأبي أيوب الأنصاري( {[12545]} ) .

قال غيرهم : والجنب في الآية من أنزل ، أو التقى منه الختانان( {[12546]} ) ، وإن لم ينزل لأن في كلاهما الطهر عندهم ، فمن أولج ، ولم ينزل بمنزلة من أنزل في الحكم فكلاهما لا يقرب المسجد إلا عابري سبيل .

وإيجاب الطهر من التقاء الختانين ، وإن لم ينزل قول عامة الفقهاء ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي والثوري وأهل العراق ، وجماعة من الفقهاء( {[12547]} ) ، وقد تواترت الأخبار بإيجاب الغسل من التقاء الختانين عن النبي عليه السلام( {[12548]} ) .

قوله : ( وَإِن كُنتُم مَّرْضَى ) أي : بجرح أو جُدري أو غير ذلك من الأمراض المانعة من( {[12549]} ) الغسل فتيمموا( {[12550]} ) .

قال مالك : المرض هنا هو المريض الذي به جراحة ، رخص له في التيمم( {[12551]} ) .

وقيل : المريض هنا هو الذي لا يجد من يأتيه بالماء( {[12552]} ) .

( أَوْ عَلَى سَفَرٍ ) أي : مسافرين غير واجدين الماء وأنتم جنب فتيمموا .

قوله : ( اَوْ جَاءَ احَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ ) أي : من قضى حاجته فلم يجد ماء فليتيمم ، والغائط : ما اتسع من الأرض ، وقيل : هو الموضع المنخفض المستور وكثر ذلك حتى قيل لمن قضى حاجته متغوط( {[12553]} ) . قال أبو عبيدة : " أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض " ( {[12554]} ) .

قوله : ( أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ ) اللمس هنا الجماع ، وقيل : هو ما دون الجماع ، أرخص الله لهم أن يتيمموا إذا لم يجدوا ماء ، والمقيم والمسافر في جواز التيمم له عند عدم الماء سواء ، وعلى من عدم الماء التيمم لكل صلاة لأنه يطلب الماء لكل صلاة وعند عدمه يتيمم( {[12555]} ) . ومعنى لمستم( {[12556]} ) أو لامستم واحد .

وقيل : لامستم يريد به الجماع ، ولمستم : القبلة والمباشرة( {[12557]} ) .

وقال المبرد : " لمستم الأولى( {[12558]} ) أن يكون بمعنى قَبَّلْتُم ، لأن لكل واحد منهما فعلاً( {[12559]} ) ، ولمستم بمعنى غشيتم ، ومسستم أن المرأة ليس لها في هذا الفعل شيء فلمستم بمعنى غشيتم( {[12560]} ) . وقال أبو عمرو : " لامستم بمعنى : الجماع " . ومذهب الكسائي : أن اللمس بمعنى الغمز والإفضاء ببعض الجسد إليها .

والصعيد : الأرض الملساء التي لا نبت فيها قاله قتادة( {[12561]} ) . وقيل : هو الأرض المستوية ، قاله ابن زيد( {[12562]} ) . وقيل( {[12563]} ) : الصعيد التراب ، وقيل( {[12564]} ) : وجه الأرض .

والصعيد في( {[12565]} ) اللغة وجه الأرض( {[12566]} ) ، والطيب هنا النظيف الطاهر ، وقال سفيان : " معنى طيباً " أي حلال لكم ، كما تقول هنالك ذلك( {[12567]} ) .

قوله : ( بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمُ ) أي منه ، ومسح الأيدي في التيمم هو إلى حد الوضوء إلى المرفقين ، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وسالم بن عبد الله ، وهو قول مالك والليث والثوري والشافعي وعبد العزيز بن أي سلمة( {[12568]} ) وأصحاب الرأي .

وقيل : التيمم إلى( {[12569]} ) الكفين( {[12570]} ) إلى الزندين( {[12571]} ) ، وهو موضع قطع السارق ، وهو( {[12572]} ) مذهب عكرمة ، والأوزاعي وابن جبير ومكحول وعطاء ، وروي ذلك عن ابن المسيب والنخعي وغيرهم .

وقيل التيمم إلى الآباط ، وهو قول الزهري( {[12573]} ) .

وهذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلت بهم جنابة في سفر فلم يجدوا ماء ، وشاهد هذا القول ما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة العقد فكانت الآية ، والرخصة من بركتها رضوان الله عليها( {[12574]} ) .


[12520]:- انظر: معاني الأخفش 1/447 وإعراب النحاس 1/419.
[12521]:- كذا... والصواب تنهاهم.
[12522]:- انظر: جامع البيان 5/95، وأسباب النزول: 87 والدر المنثور 2/545.
[12523]:- المائدة: 90-91.
[12524]:- لعل الشكل من مكي، أما الرواة فأجمعوا على أنه عبد الرحمن بن عوف ورجل آخر لم يسم انظر: تفسير سفيان: 96.
[12525]:- انظر: جامع البيان 5/95 وأسباب النزول 87، وتفسير ابن كثير 1/500.
[12526]:- تفسير السكر بالنوم هو الذي جعل الآية محكمة وقد رده النحاس لأنه لا يعرف في اللغة انظر: إعراب النحاس 1/419 ومثله مكي رده عن طريق مفهوم الخطاب. انظر: الإيضاح في الناسخ: 194، وضعف ابن عطية قول الضحاك. انظر: المحرر 4/125.
[12527]:- انظر: جامع البيان 5/96.
[12528]:- ساقط من (أ).
[12529]:- (أ) (ج): فتنتهوا.
[12530]:- عزا القرطبي هذا القول لأبي حنيفة لأن الغالب ألا يعدم الماء في الحضر، فالحاضر يغتسل لوجود الماء والمسافر يتيمم إذا لم يجده. انظر: أحكام الجصاص 2/2032، والجامع للأحكام 5/206.
[12531]:- كذا... وفيه اضطراب.
[12532]:- (أ): جنباً وهو خطأ.
[12533]:- انظر: أحكام ابن العربي 1/436، والجامع للأحكام 5/206.
[12534]:- هو المختار عند الطبري. انظر: جامع البيان 5/100.
[12535]:- ساقط من (أ).
[12536]:- كذا... وصوابه لا تقرب وهي رواية الطبري. انظر: المصدر السابق 5/98.
[12537]:- انظر: جامع البيان 5/99.
[12538]:- انظر: جامع البيان 5/99، ولباب النقول: 69.
[12539]:- لا يعجب مالك أن يدخل الجُنُب المسجد عابر سبيل أو غير ذلك. انظر: المدونة الكبرى 1/37، وهو جائز عند الشافعي الأم 1/71.
[12540]:- اختلافهم في الحائض من باب اختلافهم في الجُنُب انظر: بداية المجتهد أ/48.
[12541]:- مذهب الحنفية إلا يدخله إلا طاهراً سواء أراد القعود فيه أو الاجتياز. انظر: أحكام الجصاص 1/203.
[12542]:- خرجه مسلم في كتاب الحيض 1/185، والترمذي في كتاب الطهارة 1/77.
[12543]:- هو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص بن مالك القرشي الزهري توفي 55، الصحابي الأمير، فاتح العراق ومدائن كسى وأحد المبشرين بالجنة. انظر: صفة الصفوة 1/365 والإصابة 2/302.
[12544]:- هو أبو عبد الله رافع بن خديج الأوسي توفي: 34 هـ صحابي شهد بدراً وغيرهاز انظر: أسد الغابة 441، والإصابة 1/483.
[12545]:- هو أبو أيوب الأنصاري النجاري مشهور بكنيته، واسمه خالد بن زيد بن كليب، توفي 50 هـ صحابي من السابقين، حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: أسد الغابة 1/571 والإصابة 1/404.
[12546]:- (أ): الختان و(د): الختانان.
[12547]:- انظر: الموطأ كتاب الطهارة 39 والمدونة الكبرى 1/33 والأم 1/52، وأحكام الجصاص 2/205.
[12548]:- انظر: البخاري في كتاب الغسل 1/76 ومسلم في كتاب الحيض 1/187. والدارمي في كتاب الصلاة 1/194.
[12549]:- (أ): إنما نعت
[12550]:- (د): تيمموا.
[12551]:- انظر: المدونة الكبرى 1/48.
[12552]:- انظر: جامع البيان 5/101.
[12553]:- انظر: تفسير الغريب واللسان: (غوط) 7/364.
[12554]:- التعريف لابن قتيبة وليس لأبي عبيدة ولعل الأمر اختلط على مكي. انظر: مجاز القرآن 1/128 وتفسير الغريب 127.
[12555]:- (د): يتيم.
[12556]:- (ج): لامستم وهو تحريف.
[12557]:- هما قراءتان: (أ) قرأ حمزة والكسائي "أو لمستم النساء" بغير ألف جعل الفعل للرجل وحده دون المرأة وحجتها أن اللمس ما دون الجماع كالقبلة والغمزة. (ب) وقرأ الباقون "أو لامستم النساء بالألف وحجتهم أن الملامسة لا تكون إلا من اثنين رجل وامرأة. انظر: السبعة 234، وحجة القراءات: 206.
[12558]:- (ج): أولا ولى.
[12559]:- فعلن.
[12560]:- انظر: الكامل للمبرد 2/131 وإعراب النحاس 421.
[12561]:- انظر: جامع البيان 5/108.
[12562]:- انظر: جامع البيان 5/109.
[12563]:- عزاه الطبري إلى عمرو بن قيس في جامع البيان 5/109.
[12564]:- انظر: هذا التوجيه في جامع البيان 5/109.
[12565]:- (أ): الصعيد للغة.
[12566]:- وهو اختيار مالك. انظر: أحكام ابن العربي 1/448، والبخاري في صحيحه 5/180، والزجاج في معانيه 2/56.
[12567]:- رواية الطبري أن سفيان سمعه من غيره. انظر: جامع البيان 5/109 والتفسير قلق فيه نظر.
[12568]:- هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي المدني توفي 164 هـ، الثقة كثير الحديث روى عن الزهري وابن المنكدر. انظر: تاريخ الثقات 305، وتاريخ بغداد 10/436، وطبقات الحفاظ 100.
[12569]:- كذا... وصوابه: من.
[12570]:- (د): الكوعيين.
[12571]:- ألم زنديين.
[12572]:- في هذا القول اضطراب ناتج عن تلخيصه من قول مطول ينسب لعكرمة في جامع البيان 5/110.
[12573]:- انظر: الموطأ في كتاب الطهارة 47 والبخاري في كتاب التيمم 1/85، ومسلم في باب التيمم 1/190، وبداية المجتهد 1/68.
[12574]:- انظر: صحيح البخاري 5/180 وجامع البيان 5/112 وتفسير ابن كثير 1/505.