السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة } أي : لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها { وأنتم سكارى } من الشراب { حتى تعلموا ما تقولون } بأن تصحوا منه كقوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } ( الإسراء ، 32 )

{ ولا تقربوا الفواحش } ( الأنعام ، 151 ) .

روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الخمر مباحاً فأكلوا وشربوا فلما سكروا جاء وقت صلاة المغرب فقدّموا أحدهم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى آخر السورة فنزلت ، فكانوا لا يشربونها في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها .

وقيل : أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد . وقيل : أراد بالسكر سكر النوم ونهى عن الصلاة عند غلبة النوم قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنّ أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) .

وقوله تعالى : { ولا جنباً } منصوب على الحال أي : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب بإيلاج أو إنزال ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ورجال ونساء جنب ؛ لأنه يجري مجرى المصدر لا أنه مصدر بل هو اسم مصدر ؛ لأنه لم يستوف حروف الفعل ؛ لأنّ فعله أجنب فمصدره إجناباً لا جنباً ، وأصل الجنابة البعد وسمي جنباً ؛ لأنه يجتنب موضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل { إلا عابري } أي : مجتازي { سبيل } أي : طريق أو مسافرين { حتى تغتسلوا } أي : فلكم أن تصلوا ، واستثناء المسافر له حكم آخر سيأتي .

وفي هذا دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث ؛ لأنه غياه بقوله : ( حتى تغتسلوا ) ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها وجوّز للجنب عبور المسجد ، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز له المرور إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق إلى الماء { وإن كنتم مرضى } أي : مرضاً يخاف معه من استعمال الماء فإنّ الواجد كالفاقد { أو على سفر } أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون { أو جاء أحد منكم من الغائط } أي : أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين ، والغائط المكان المطمئن من الأرض تقضي فيه الحاجة سمي باسمه الخارج للمجاورة { أو لامستم النساء } ، قرأ حمزة والكسائيّ بغير ألف بين اللام والميم والباقون بألف ، واختلف في معنى اللمس والملامسة فقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء أكان بجماع أم بغيره ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وبه استدلّ الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ اللمس ينقض الوضوء ، وقال قوم : هما المجامعة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة كني باللمس عن الجماع ؛ لأنّ باللمس يوصل إلى الجماع { فلم تجدوا ماء } تطهرون به للصلاة بعد الطلب ؛ لأنه لا يسمى غير واجد إلا بعد الطلب وهذا راجع إلى ما عدا المرض { فتيمموا } أي : بعد دخول الوقت { صعيداً طيباً } أي : تراباً طاهراً أي : طهوراً أمّا المرضى فيتيممون مع حضور الماء ؛ لأنّ وجوده بالنسبة إليهم كالعدم { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } مع المرفقين منه بضربتين كما ثبت في الحديث وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأجاب عن قوله تعالى في آية المائدة : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ( المائدة ، 6 ) أي : بعضه وهو لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه بأنّ من لابتداء الغاية ، قال الزمخشريّ : وقولهم : إنها لابتداء الغاية فيه تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض ، قال : والإذعان للحق أحق من المراء ، والتيمم من خصائص هذه الأمّة .

روي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) وكان بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ماء وليس معهم ماء ؟ فعاتبني أبو بكر وقال : ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر ، فقالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ) .

وفي رواية أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة ، وقوله تعالى : { إنّ الله كان عفوّاً غفوراً } كناية عن الترخيص والتيسير ؛ لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر ما كان ميسوراً غير معسر .