قوله تعالى : { واستفتحوا } استنصروا . قال ابن عباس و مقاتل : يعنى الأمم ، وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ، نظيره قوله تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال -42 ] . وقال مجاهد وقتادة : واستفتحوا يعني الرسل وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح عليه السلام : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [ نوح-26 ] وقال موسى عليه السلام : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } ، الآية [ يونس-88 ] . { وخاب } ، خسر : وقيل : هلك ، { كل جبار عنيد } والجبار : الذي لا يرى فوقه أحدا . والجبرية : طلب العلو بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل . وقيل : الجبار : الذي يجبر الخلق على مراده ، والعنيد : المعاند للحق ومجانبه . قاله مجاهد ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- : هو المعرض عن الحق . قال مقاتل : هو المتكبر . وقال قتادة : العنيد : الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .
وقوله - سبحانه - { واستفتحوا } من الاستفتاح بمعنى الاستنصار ، أى : طلب النصر من الله - تعالى - على الأعداء . والسين والتاء للطلب .
ومنه قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . . } وقوله - تعالى - { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ . . . } أو يكون { واستفتحوا } من الفتاحة بمعنى الحكم والقضاء ، أى : واستحكوا الله - تعالى - وطلبوا منه القضاء والحكم ، ومنه قوله - تعالى - { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } والجملة الكريمة معطوفة على { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } ، والضمير يعود إلى الرسل .
والمعنى : والتمس الرسل من خالقهم - عز وجل - أن ينصرهم على أعدائه وأعدائهم ، وأن يحكم بحكمه العادل بينهم وبين هؤلاء المكذبين .
قالوا : ومما يؤيد ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن { واستفتحوا } - بكسر التاء - أمراً للرسل .
ومنهم من يرى أن الضمير يعود للفريقين : الرسل ومكذيبهم . أى : أن كل فريق دعا الله أن ينصره على الفريق الآخر .
وقوله { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } بيان لنتيجة الاستفتاح . والجبار : الإِنسان المتكبر المغرور المتعالى على غيره ، المدعى لمنزلة أى لشئ ليس من حقه .
والعنيد : مأخوذ من العند - بفتح النون - بمعنى الميل . يقال : عند فلان عن الطريق - كنصر وضرب وكرم - عنودا ، إذا مال عنها . وعند فلان عن الحق ، إذا خالفه .
والجملة الكريمة معطوفة على محذوف ، والتقدير : واستفتحوا فنصر الله - تعالى - رسله على أعدائهم ، وخاب وخسر ، كل متكبر متجبر معاند للحق .
قال ابن كثير : قوله : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أى : متجبر فى نفسه معاند للحق ، كما قال - تعالى - { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ . الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد } وفى الحديث : " يؤتى بجنهم يوم القيامة ، فتنادى الخلائق فتقول : إنى وكلت بكل جبار عنيد . . . " .
وقال - سبحانه - { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ولم يقل وخاب الذين كفروا كما هو مقتضى الظاهر من السياق ، للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة معاندين للحق ، وأن كل من كان كذلك فلابد من أن تكون عاقبته الخيبة والخسران .
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر - فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف ، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف . ودعا كلاهما بالنصر والفتح . . وكانت العاقبة كما يجب أن تكون :
( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، ومن ورائه عذاب غليظ ) . .
وقوله : { واستفتحوا } أي : استنصرت الرسل ربها على قومها . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها ، كما قالوا : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا ، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر ، واستفتح رسول الله واستنصر ، وقال الله تعالى للمشركين : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } الآية [ الأنفال : 19 ] ، والله أعلم .
{ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : متجبر في نفسه معاند للحق ، كما قال تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ ق : 24 - 26 ] .
وفي الحديث : " إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادي الخلائق فتقول : إني وُكلت بكل جبار عنيد " الحديث{[15782]} .
خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر .
{ واستفتحوا } سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة كقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } وهو معطوف على { فأوحى } والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقيل للكفرة وقيل للفريقين . فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل . وقرئ بلفظ الأمر عطفا على " ليهلكن " . { وخاب كل جبار عنيد } أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح ، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع .
وقرأت فرقة «واستفتِحوا » بكسر التاء ، على معنى الأمر للرسل ، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن .
و { خاب } معناه : خسر ولم ينجح ، و «الجبار » : المتعظم في نفسه ، الذي لا يرى لأحد عليه حقاً ، وقيل : معناه الذي يجبر الناس على ما يكرهون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المفهوم من اللفظ ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار » بأنه الذي يأبى أن يقول : لا إله إلا الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واستفتحوا}، يعني دعوا ربهم واستنصروا، وذلك أن الرسل أنذروا قومهم العذاب في الدنيا، فردوا عليهم: أنكم كذبة، ثم قالوا: اللهم إن كانت رسلنا صادقين فعذبنا، فذلك قوله تعالى: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [الأعراف:70] فذلك قوله سبحانه: {واستفتحوا} يعني مشركي مكة، وفيهم أبو جهل، يعني ودعوا ربهم، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وخاب كل جبار عنيد}، يعني وخسر عند نزول العذاب كل متكبر عن توحيد الله عز وجل... {عنيد}، يعني معرض عن الإيمان مجانب له...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واستفتحت الرُّسل على قومها: أي استنصرت الله عليها، "وخاب كل جبار عنيد"، يقول: هلك كل متكبر جائر حائدٍ عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبادة له... عن مجاهد: "واستفتحوا"، قال: الرسل كلها. يقول: استنصروا. "عنيد"، قال معاند للحق مجانبه... وكان ابن زيد يقول في معنى قوله: "واستفتحوا"، خلاف قول هؤلاء، ويقول: إنما استفتحت الأمم، فأجيبت... قال: استفتاحهم بالبلاء، قالوا: اللهم إن كان هذا الذي أتى به محمد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: الاستنصار؛ استنصروا الله على أعدائهم كقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [البقرة: 89] أي يستنصرون.
والثاني: {واستفتحوا} أي تحاكموا إلى الله في النصر للأحق منهم والأقرب إلى الحق كقوله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} الآية [الأعراف: 89] وهو التحاكم إليه.
{وخاب كل جبار عنيد} هو ما ذكرنا: تحاكموا إلى الله، فنصر أولياءه وأهلك أعداءه...
وقوله تعالى: {وخاب كل جبار عنيد} أي متجبر على رسله وأولياءه. والعنيد قيل: المعرض المجانب عن الحق والطاعة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الاستفتاح طلب الفتح، الفتح القضاء، واستعجلوا حلول القضاء...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقيل: وهلك كل جبار، والجبار هو الذي لا يرى فوقه أحد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وخاب كل جبار عنيد، وهم قومهم...
{واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن قلنا: المستفتحون هم الرسل، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا {وخاب كل جبار عنيد} وهم قومهم؛ وإن قلنا: المستفتحون هم الكفرة، فكان المعنى: أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل {وخاب كل جبار عنيد} منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{واستفتحوا} سألوا من الله الفتح على أعدائهم... {وخاب كل جبار عنيد} أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {وَخَابَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}...فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب، وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{كُلّ جَبَّارٍ} متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، وقال الراغب: الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم {عَنِيدٍ} معاند للحق مباه بما عنده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة -قوة الطغاة الظالمين- بالقوة الجبارة الطامة -قوة الجبار المهيمن المتكبر- فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين.
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله -سبحانه- في صف. ودعا كلاهما بالنصر والفتح.. وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد. من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد. يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، ومن ورائه عذاب غليظ)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {واستفتحوا} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {فأوحى إليهم ربهم}، أو معترضة بين جملة {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} وبين جملة {وخاب كل جبار عنيد}. والمعنى: أنهم استعجلوا النصر. وضمير {استفتحوا} عائد إلى الرسل، ويكون جملة {وخاب كل جبار عنيد} عطفاً على جملة {فأوحى إليهم ربهم} الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم: {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}. ومقتضى الظاهر أن يقال: وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى {كل جبار عنيد} للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب. ويجوز أن تكون جملة {استفتحوا} عطفاً على جملة {وقال الذين كفروا لرسلهم} ويكون ضمير {استفتحوا} عائداً على الذين {كفروا}، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله: {وخاب كل جبار عنيد} إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال: وخابوا، إلى قوله: {كل جبار عنيد} لمثل الوجه الذي ذكر آنفاً. والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{استفتحوا} طلبوا الفتح والنصر، والضمير يعود إلى الرسل، أي أن الرسل بعد أن اطمأنوا إلى وعد الله تعالى لهم بأنه مهلك الظالمين بسبب ظلمهم تقدموا لمنازلة المشركين، واستفتحوا كما كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم في كل غزوة يغزوها، والفتح هو النصر... وقوله تعالى: {وخاب كل جبار عنيد} بيان لنتيجة المعركة التي استفتح لها الرسل، والواو للعطف على فعل محذوف، تقديره، وفتح الله تعالى للرسل بأن نصرهم أو حكم لهم وخاب كل جبار عنيد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وحين انقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب، وأدّوا جميع وظائفهم في قومهم، فآمن منهم من آمن، وبقي على الكفر من بقي، وبلغ ظلم الظالمين مداه، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى (واستفتحوا...) وقد استجاب اللّه عز ّوجلّ دعاء المجاهدين المخلصين (وخاب كلّ جبّار عنيد)...