اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ} (15)

قوله : { واستفتحوا } العامة على " اسْتفْتَحُوا " فعلاً ماضياً ، وفي ضميره أقوال :

أحدها : أنه عائد على الرًّسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاح : الاستنصار كقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .

وقيل : طلب الحكم من الفتاحة ، وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] .

الثاني : أن يعود على الكفار ، أي أستفتح أمم الرسل عليهم ؛ كقوله تعالى : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] وقيل : عائد على الفريقين ؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه .

وقيل : يعود على قريش ؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا ، وهو على هذا مستأنف ، وأما على غيره من الأقوال فهو عطف على قوله : " فأوحى إليهم " .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رضي الله عنهم " واستفتحوا " على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة ، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل ، والتقدير : قال لهم : لنهلكن ، وقال لهم : استفتحوا .

قوله : " وخاب " هو في قراءة العامة عطف على محذوف ، وتقديره : استفتحوا ، فنصروا ، وخاب ، ويجوز أن يكون عطفاً على " استفتحوا " على أن الضمير فيه للكفار ، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس .

إن قلنا : المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنصروا وظفروا ، وهو قول مجاهد وقتادة ، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ، ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح -صلوات الله عليه- : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] .

وإن قلنا : المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ، وذلك أنههم قالوا : " اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا " نظيره : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . " وخَابَ " ما أفلح . وقيل : خسر . وقيل : هلك كل جبّار عنيد . والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً ، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا الله -عزَّ وجلَّ- .

وقيل : الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده ، والجبَّار هنا : المتكبر على طاعة الله -سبحانه وتعالى- وعبادته ، ومنه قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] .

قال أبو عبيدة : " الأجْبَر يقال فيه جبريّة ، وجَبرُوَّة ، وجَبرُوت " .

وحكى الزجاج : " الجِبْرُ ، والجِبْرِية ، والجِبَّارة ، الجِبْرِيَاءُ " .

قال الواحديُّ : " فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار ، ومنه الحديث : أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : " دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ " أي : مستكبرة " {[19176]} ، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه :

قال البصريون : أصل العُنُود : الخلاف ، والتباعد ، والترك .

وقال غيرهم : أصله من العَنْد وهو النَّاحية ، يقال : هو يمشي عنداً ، أي : ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه ، قاله مجاهد{[19177]} .

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : هو المعرض عن الحق{[19178]} . وقال مقاتلٌ : هو المتكبّر{[19179]} وقال قتادة : العَنِيدُ الذي أبى أن يقال : لا إلهَ إلاَّ الله{[19180]} .


[19176]:أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/291) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/104) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى وفيه يحيى الحماني ضعفه أحمد ورماه بالكذب. وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3/189)، رقم (3215) وعزاه إلى أبي يعلى. والحديث في "كنز العمال" (45102) وعزاه إلى أبي يعلى عن أنس والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة.
[19177]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/29).
[19178]:ينظر: المصدر السابق.
[19179]:ينظر: المصدر السابق.
[19180]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/428) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/137) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.