قوله تعالى : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } ، صبياناً أو شباناً أو كهولاً ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، أردئه قال مقاتل : يعني الهرم . قال قتادة : أرذل العمر : تسعون سنة . روي عن علي قال : أرذل العمر : خمس وسبعون سنة . وقيل : ثمانون سنة . { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } ، لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا ، { إن الله عليم قدير } .
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن يوسف ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى ، حدثنا عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " أعوذ بك من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .
قال الإِمام الرازى - رحمه الله - : " لما ذكر - سبحانه - بعض عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، ومنها ما هو مذكور فى هذه الآية : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } - وهو إشارة إلى مراتب عمر الإِنسان . والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب : أولها : سن النشوء والنماء ، وثانيها : سن الوقوف : وهو سن الشباب ، من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة - ، وثالثها : سن الانحطاط القليل : وهو سن الكهولة - وهو من الأربعين إلى الستين - ورابعها : سن الانحطاط الكبير : - وهو سن الشيخوخة - وهو من الستين إلى نهاية العمر - " .
والمعنى : { والله } - تعالى - هو الذي { خلقكم } بقدرته ، ولم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا .
" ثم " هو وحده الذي { يتوفاكم } ، وينهي حياتكم من هذه الدنيا عند انقضاء آجالكم .
وقوله : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر . . } ، معطوف على مقدر ، أي : والله - تعالى - هو الذي خلقكم ، فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسده وعقله حتى يموت ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر . والمراد بأرذل العمر : أضعفه وأوهاه : وهو وقت الهرم والشيخوخة ، الذي تنقص فيه القوى ، وتعجز فيه الحواس عن أداء وظائفها .
يقال : رَذُلَ الشيء يَرْذُل - بضم الذال فيهما - رذالة . . إذا ذهب جيده وبقي رديئه .
وقوله : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } تعليل للرد إلى أرذل العمر .
أي : فعلنا ما فعلنا من إبقاء بعض الناس في هذه الحياة إلى سن الشيخوخة لكي يصير إلى حالة شبيهة بحالة طفولته في عدم إدراك الأمور إدراكا تاما وسليما .
ويجوز أن تكون اللام للصيرورة والعاقبة ، أي : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء ، إلى أن لا يعلم شيئا منها علما كاملا .
ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصل عمره إلى هذه السن ؛ لأنها سن تتكاثر فيها الآلام والمتاعب . وقد يصير الإِنسان فيها عالة على غيره . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } ، قال الإِمام ابن كثير : روى البخارى عند تفسير هذه الآية ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من البخل ، والكسل والهرم ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .
وقال زهير بن أبي سلمى فى معلقته المشهورة :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش . . . ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب . . . تمته ، ومن تخطئ يعمر فيهرم
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على كمال علمه ، وتمام قدرته ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ } ، أي : إن الله - تعالى - عليم بأحوال مخلوقاته ، لايخفى عليه شيء من تصرفاتهم ، { قدير } على تبديل الأمور كما تقتضي حكمته وإرادته .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة إمكان البعث وأنه حق ؛ لأن الله - تعالى - القادر على خلق الإنسان وعلى نقله من حال إلى حال . . قادر - أيضا - على إحيائه بعد موته .
ومن الأنعام والأشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية ، لأنها في صميم ذواتهم : في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم . فهم أشد حساسية بها ، وأعمق تأثرا واستجابة لها :
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ، إن الله عليم قدير ) .
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء . أفبنعمة الله يجحدون )?
( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ، ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ؟ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ؟ ) . .
واللمسة الأولى في الحياة والوفاة ، وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس ؛ والحياة حبيبة ، والتفكر في أمرها قد يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين ، وإلى شيء من الحساسية بيد الله ونعمته وقدرته . والخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء إلى واهب الحياة . وصورة الشيخوخة حين يرد الإنسان إلى أرذل العمر ، فينسى ما كان قد تعلم ، ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة . هذه الصورة قد ترد النفس إلى شيء من التأمل في أطوار الحياة ، وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه ومقدرته . ويجيء التعقيب : ( إن الله عليم قدير )ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة . أن العلم الشامل الأزلي الدائم لله ، وأن القدرة الكاملة التي لا تتأثر بالزمن هي قدرة الله . وأن علم الإنسان إلى حين ، وقدرته إلى أجل ، وهما بعد جزئيان ناقصان محدودان .
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ، ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهَرَم - وهو الضعف في الخلقة - كما قال الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ] .
وقد روي عن علي ، رضي الله عنه ، في أرذل العمر [ قال ]{[16560]} : خمس وسبعون سنة . وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم ؛ ولهذا قال : { لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا }{[16561]} ، أي : بعد ما كان عالمًا أصبح لا يدري شيئًا من الفَنَد والخرف ؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شُعَيب ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " أعوذ بك من البخل والكسل ، والهرم وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " . ورواه مسلم ، من حديث هارون الأعور ، به{[16562]} .
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته{[16563]} المشهورة :
سَئمتُ تَكَاليفَ الحيَاة ومَنْ يعشْ *** ثمانينَ عاما - لا أبَالك - يَسْأم . . .
رَأيتُ المَنَايا خَبط عَشْواء من تصِبْ *** تمتْه ومَنْ تُخْطئ يُعَمَّرْ فَيهْرَمِ{[16564]} .
{ والله خلقكم ثم يتوفّاكم } ، بآجال مختلفة . { ومنكم من يُردّ } ، يعاد . { إلى أرذل العمر } ، أخسه ، يعني : الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل . وقيل هو : خمس وتسعون سنة ، وقيل : خمس وسبعون . { لكيلا يعلم بعد علم شيئا } ، ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية في النسيان وسوء الفهم . { إن الله عليم } بمقادير أعماركم . { قدير } ، يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني ، وفيه تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم ، ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ .
هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك ، ثم اعترض بمن ينكث من الناس ؛ لأنهم موضع عبرة{[7365]} ، و { أرذل العمر } ، آخرُه الذي تفسد فيه الحواس ويخْتل النطق ، وخص ذلك بالرذيلة ، وإن كانت حال الطفولية كذلك ، من حيث كانت هذه لأرجاء معها ، والطفولية إنما هي بدأة ، والرجاء معها متمكن ، وقال بعض الناس : أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة ، روي ذلك عن علي رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في الأغلب ، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان ، والمعْنى : منكم من يرد إلى أرذل عمره ، ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره ، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره ، واللام في { لكي } يشبه أن يكون لام صيرورة ، وليس ببين ، والمعنى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً ، وهذه عبارة عن قلة علمه ، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة ، ولم تحل { لا } بين «كي » ومعمولها لتصرفها ، وأنها قد تكون زائدة ، ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله خلقكم}، ولم تكونوا شيئا لتعتبروا في البعث،
{ومنكم من يرد إلى أرذل العمر}، يعني: الهرم،
{لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم}، بالبعث أنه كائن،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله خلقكم أيها الناس وأوجدكم ولم تكونوا شيئا، لا الآلهةُ التي تعبدون من دونه، فاعبدوا الذي خلقكم دون غيره. "ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ "يقول: ثم يقبضكم. "وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ"، يقول: ومنكم من يَهْرَم فيصير إلى أرذل العمر، وهو أردؤه...
وقوله: "لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئا" يقول: إنما نردّه إلى أرذل العمر؛ ليعود جاهلاً كما كان في حال طفولته وصباه. "بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئا" يقول: لئلا يعلم شيئا بعد علم كان يعلمه في شبابه، فذهب ذلك بالكبر ونسي، فلا يعلم منه شيئا، وانسلخ من عقله، فصار من بعد عقل كان له، لا يعقل شيئا. {إنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، يقول: إن الله لا ينسى ولا يتغير علمه، عليم بكلّ ما كان ويكون، قدير على ما شاء، لا يجهل شيئا، ولا يُعجزه شيءٌ أراده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يُذَكِّرُهم أنه هو الذي {خلقكم ثم يتوفاكم}، ثم هو يملك ردكم إلى الحال التي لا تعلمون شيئا، وفي ملكه وسلطانه تتقلبون...
{إلى أرذل العمر}، يقول: يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف والجهل بعد العلم؛ ليتبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بِهما رُبِيَّ، وقَوِيَ؛ لأنهما ثابتان، ثم يبلى، ويفنى بهما، ويرجع إلى الجهل، ولكن بلطف من الله وتدبير منه لا بالأغذية، والله أعلم...
{إن الله عليم}، بما دبر في خلقه، مما يُدركون به قدرة خالقهم، وتصريفه الأمور بما يكونون به حكماء وعلماء. إن الذي دبرها حكيم {قدير} على ما شاء...
والحكمة في ما ذَكَرَ من تفريق الآجال أمرين: أحدهما: ليكونوا أبدا خائفين راجين؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة لأمنوا، وتعاطوا المعاصي على َأمن لما يعلمون وقت نزول الموت بهم. والثاني: ليعلموا أَن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم؛ لأن لله التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو:"أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى أَرْذَلِ العمر}، إلى أخسه وأحقره... لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم. {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}، ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئاً، ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً: وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وخص ذلك بالرذيلة، وإن كانت حال الطفولية كذلك، من حيث كانت هذه لا رجاء معها، والطفولية إنما هي بدأة، والرجاء معها متمكن...
والمعْنى: منكم من يرد إلى أرذل عمره، ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره... واللام في {لكي} يشبه أن يكون لام صيرورة... والمعنى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة... ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير...
المسألة الأولى: لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان، والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب:
وثانيهما: سن الوقوف وهو سن الشباب.
وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة. ورابعها: سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة...
على أن ذلك الناقل هو الله تعالى...
ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم، فلا يمكن إسناده إلى الطبائع، والله أعلم...
المسألة الثانية:... {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر؟ فيه قولان:...
القول الأول: أنه يتناوله، قيل: إنه العمر الطويل...
والقول الثاني: أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر، والدليل عليه قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين...
المسألة الثالثة: هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار، فهي أيضا تدل على صحة البعث والقيامة، وذلك لأن الإنسان كان عدما محضا فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية، فدل هذا على أنه لما كان معدوما في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزا، فكذلك لما صار موجودا، ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزا... وأيضا كان ميتا حين كان نطفة ثم صار حيا ثم مات فلما كان الموت الأول جائزا كان عود الموت جائزا، فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرة الثانية... وأيضا الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئا، ثم صار عالما عاقلا فاهما، فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية، وهو عدم العقل الذي حصل، ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى. ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق، والله أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم من عموم القدرة وشمول العلم، المقتضي للفعل بالاختيار، المحقق للبعث وغيره، من كل ما يريده سبحانه ببعض آياته المبثوثة في الآفاق من جماد ثم حيوان، وختم ذلك بما هو شفاء، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك، مذكراً بمراتب عمر الإنسان الأربع، وهي سن الطفولية والنمو، ثم سن الشباب: الذي يكون عند انتهائه الوقوف، ثم سن الكهولة: وفيه يكون الانحطاط مع بقاء القوة، ثم سن الانحطاط مع ظهور الضعف، وهو: الشيخوخة، مضمناً ما لا يغني عنه دواء، حثاً على التفكر في آياته والتعقل لها قبل حلول ذلك الحادث، فيفوت الفوت، ويندموا حيث لا ينفع الندم، فقال: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، {خلقكم}، فجعلكم بعد العدم أحياء فهّماً خصّماً، {ثم يتوفاكم}، على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته، {ومنكم من يرد}، أي: بأيسر أمر منا، لا يقدر على مخالفته بوجه، {إلى أرذل العمر}؛ لأنه يهرم فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف مع استقذار غيره له، ولا يرجى بعده {لكي لا يعلم}.
ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة، وشمول العلم، والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء، ولا تجدي معه حيلة فقال: {بعد علم شيئاً}، لا يوجد في شيء من ذلك عند إحلاله شفاء، ولا يمنعه دواء: فبادروا إلى التفكر والاعتبار قبل حلول أحد هذين، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله}، أي: الذي له الإحاطة الكاملة، {عليم قدير}، أي: بالغ العلم شامل القدرة، فمهما أراد كان، ومهما أراد غيره ولم يرده هو، أحاط به علمه، فسبب له بقدرته ما يمنعه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن الأنعام والأشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية، لأنها في صميم ذواتهم: في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم. فهم أشد حساسية بها، وأعمق تأثرا واستجابة لها:... واللمسة الأولى في الحياة والوفاة، وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس؛ والحياة حبيبة، والتفكر في أمرها قد يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين، وإلى شيء من الحساسية بيد الله ونعمته وقدرته. والخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء إلى واهب الحياة. وصورة الشيخوخة حين يرد الإنسان إلى أرذل العمر، فينسى ما كان قد تعلم، ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة. هذه الصورة قد ترد النفس إلى شيء من التأمل في أطوار الحياة، وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه ومقدرته. ويجيء التعقيب: (إن الله عليم قدير) ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة. أن العلم الشامل الأزلي الدائم لله، وأن القدرة الكاملة التي لا تتأثر بالزمن هي قدرة الله. وأن علم الإنسان إلى حين، وقدرته إلى أجل، وهما بعد جزئيان ناقصان محدودان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرّفه في الخلق التصرّفَ الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعهُ، على انفراده بربوبيّتهم، وعلى عظيم قدرته. كما دلّ عليه تذييلها بجملة {إن الله عليم قدير} فهو خَلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفّاهم كَرهاً عليهم أو يردّهم إلى حالة يكرهونها فلا يستطيعون ردّاً لذلك ولا خلاصاً منه، وبذلك يتحقّق معنى العبودية بأوضح مظهر...
وجيء بالمسند فعلياً لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات... فهذه عبرة وهي أيضاً منّة، لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية، وفي التوفّي أيضاً نعم على المتوفّى لأن به تندفع آلام الهَرم، ونعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم، هذا كلّه بحسب الغالب فرداً ونوعاً، والله يخصّ بنعمته وبمقدارها من يشاء...
ولما قوبل « ثم توفّاكم» بقوله تعالى: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} علم أن المعنى ثم يتوفّاكم في إبان الوفاة، وهو السنّ المعتادة الغالبة لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر...
والأرذل: تفضيل في الرذالة، وهي الرداءة في صفات الاستياء...
و {العمر}: مدة البقاء في الحياة، لأنه مشتقّ من العَمْر، وهو شغل المكان، أي عَمر الأرض، قال تعالى: {وأثاروا الأرض وعمروها} [سورة الروم: 9]. فإضافة
{أرذل} إلى {العمر} التي هي من إضافة الصّفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي، لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفسُ العُمر. فأرذل العمر هو حال هرم البدن وضعف العقل، وهو حال في مدة العمر. وأما نفس مدّة العمر فهي هي لا توصف برذالة ولا شرف...
والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين، لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة، وهذه الرذالة رذالة في الصحّة لا تعلّق لها بحالة النفس، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمّى أرذل العمر فيهما، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر...
وتنكير {علم} تنكير الجنس. والمعنى: لكيلا يعلم شيئاً بعد أن كان له علم، أي ليزول منه قبول العلم...
وجملة {إن الله عليم قدير} تذييل تنبيهاً على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه. وقدم وصف العليم لأن القدرة تتعلّق على وفق العلم، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه لأن همّته تدعوه إلى ما ليس بالنائل...
أي: منه سبحانه كان المبدأ، وإليه سبحانه يعود المرجع.. ومادام المبدأ من عنده والمرجع إليه، وحياتك بين هذين القوسين؛ فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين؛ لأنه لا يليق بك ذلك، فأنت منه وإليه.. فلماذا التمرد؟... ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا دليلاً على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت، فالموت ليس له قاعدة، بل قد يموت الجنين في بطن أمه، وقد يموت وهو طفل، وقد يموت شاباً أو شيخاً، وقد يرد إلى أرذل العمر، أي: يعيش عمراً طويلاً...
وماذا في أرذل العمر؟! يرد الإنسان بعد القوة والشباب، بعد المهابة والمكان، بعد أن كان يأمر وينهى، ويسير على الأرض مختالاً، يرد إلى الضعف في كل شيء، حتى في أميز شيء في تكوينه، في فكره، فبعد العلم والحفظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير، لا يذكر شيئاً ولا يقدر على شيء. ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه، ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت، فهذا رحمة بنا وستر لنا من الضعف والشيخوخة، قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويعيننا على أبسط أمور الحياة، ويأمر فينا من كنا نأمره...
الوفاة إذن نعمة، خاصة عند المؤمن الذي قدم صالحاً يرجو جزاءه من الله، فتراه مستبشراً بالموت؛ لأنه عمر آخرته، فهو يحب القدوم عليها، على عكس المسرف على نفسه الذي لم يعد العدة لهذا اليوم، فتراه خائفاً جزعاً لعلمه بما هو قادم عليه...
و (ثم) حرف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي.. أي: مرور وقت بين الحدثين.. فهو سبحانه خلقكم، ثم بعد وقت وتراخ يحدث الحدث الثاني: (يتوفاكم). على خلاف حرف (الفاء)، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب، أي: تتابع الحدثين، كما في قوله تعالى: {أماته فأقبره} (سورة عبس 21): فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير... وينهي الحق سبحانه الآية بقوله: {إن الله عليم قدير}؛ لأنه سبحانه بيده الخلق من بدايته، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع، وهذا يتطلب علماً، كما قال سبحانه: {ألا يعلم من خلق} (سورة الملك 14): فلابد من علم؛ لأن الذي يصنع صنعة لابد أن يعرف ما يصلحها وما يفسدها، وذلك يتطلب قدرة للإدراك، فالعلم وحده لا يكفي...