اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ} (70)

قوله - تعالى - : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } ، الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل ، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية .

واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب :

أولها : سنُّ النشوء والنَّماء .

وثانيها : سن الوقوف ، وهو : سنُّ الشباب .

وثالثها : سن الانحطاط القليل ، وهو : سنُّ الكهولة .

ورابعها : الانحطاط الكبير ، وهو : سن الشيخوخة .

فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } عند قضاء آجالكم صبياناً ، أو شباباً ، أو كهولاً أو شيوخاً .

{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } ، أي : أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ- : { واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقوله - تعالى- : { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] .

قال مقاتل : يعني : الهرم{[19969]} . وقال قتادة : تسعون سنة{[19970]} .

وقيل : ثمانون سنة .

قيل : هذا مختصٌّ بالكافر ؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله ، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر ؛ لقوله - تعالى- : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين .

وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يردَّ إلى أرذل العمر .

قوله : " لِكَيْلا " ، في هذه اللاَّم وجهان :

أحدهما : أنَّها لام التعليل ، و " كَيْ " ، بعدها مصدرية ليس إلا ، وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها ، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام ، واللام متعلقة ب " يُرَدُّ " .

قال الحوفيُّ : إنها لام " كَيْ " ، و " كَيْ : للتأكيد .

وفيه نظر ؛ لأنَّ اللام للتَّعليل ، و " كَيْ " بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه ، وأيضاً فعملها مختلف .

والثاني : أنها لام الصَّيرورة .

قوله : " شَيْئاً " يجوز فيه التنازع ؛ لأنه تقدمه عاملان : يعلمُ وعِلْم ، أي : الفعل والمصدر ، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب " عِلْمٍ " ، وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب " يَعْلمَ " . وهو مردود ؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني ، فيقال : لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً .

ومعنى الآية : لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً ، إن الله عليم قدير .

قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه ، " قَدِيرٌ " على ما يريد{[19971]} .

فصل

هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار ، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة ؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً ، ثمَّ أوجده الله ، ثم أعدمه مرَّة ثانية ، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً ؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم ، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً ، وأيضاً : كان ميّتاً حين كان نطفة ، ثم صار حيًّا ، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً ، كان عود الموت جائزاً ؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية ، وأيضاً : الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً ، ثم صار عالماً عاقلاً ، فلما بلغ أرذل العمر ، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة ؛ وهو عدم العقل والفهم ، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال ، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده ، وعود حياته ، وعود عقله مرَّة أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ .


[19969]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/76).
[19970]:ينظر: المصدر السابق.
[19971]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/63).