قوله - تعالى - : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } ، الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل ، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية .
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب :
أولها : سنُّ النشوء والنَّماء .
وثانيها : سن الوقوف ، وهو : سنُّ الشباب .
وثالثها : سن الانحطاط القليل ، وهو : سنُّ الكهولة .
ورابعها : الانحطاط الكبير ، وهو : سن الشيخوخة .
فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } عند قضاء آجالكم صبياناً ، أو شباباً ، أو كهولاً أو شيوخاً .
{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } ، أي : أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ- : { واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقوله - تعالى- : { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] .
قال مقاتل : يعني : الهرم{[19969]} . وقال قتادة : تسعون سنة{[19970]} .
قيل : هذا مختصٌّ بالكافر ؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله ، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر ؛ لقوله - تعالى- : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين .
وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يردَّ إلى أرذل العمر .
قوله : " لِكَيْلا " ، في هذه اللاَّم وجهان :
أحدهما : أنَّها لام التعليل ، و " كَيْ " ، بعدها مصدرية ليس إلا ، وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها ، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام ، واللام متعلقة ب " يُرَدُّ " .
قال الحوفيُّ : إنها لام " كَيْ " ، و " كَيْ : للتأكيد .
وفيه نظر ؛ لأنَّ اللام للتَّعليل ، و " كَيْ " بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه ، وأيضاً فعملها مختلف .
والثاني : أنها لام الصَّيرورة .
قوله : " شَيْئاً " يجوز فيه التنازع ؛ لأنه تقدمه عاملان : يعلمُ وعِلْم ، أي : الفعل والمصدر ، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب " عِلْمٍ " ، وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب " يَعْلمَ " . وهو مردود ؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني ، فيقال : لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً .
ومعنى الآية : لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً ، إن الله عليم قدير .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه ، " قَدِيرٌ " على ما يريد{[19971]} .
هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار ، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة ؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً ، ثمَّ أوجده الله ، ثم أعدمه مرَّة ثانية ، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً ؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم ، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً ، وأيضاً : كان ميّتاً حين كان نطفة ، ثم صار حيًّا ، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً ، كان عود الموت جائزاً ؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية ، وأيضاً : الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً ، ثم صار عالماً عاقلاً ، فلما بلغ أرذل العمر ، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة ؛ وهو عدم العقل والفهم ، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال ، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده ، وعود حياته ، وعود عقله مرَّة أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.