فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ} (70)

{ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 70 ) } .

ولما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة وخصائص القدرة القاهرة ، أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال : { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ } ، ولم تكونوا شيئا ، { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } عند انقضاء آجالكم ، إما صبيانا ، وإما شبابا ، وإما كهولا . { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ، أي : أضعفه وأردأه وأخسه ، وهو الهرم . يقال : رذل يرذل رذالة ، والأرذل والرذالة : أردأ الشيء ، وأخسه وأحقره وأوضعه .

قال النيسابوري : إن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع :

أولها : سن النشوء والنماء ، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد .

وثانيها : سن الوقوف ، وهو من ثلاث وثلاثين إلى أربعين سنة ، وهو غاية القوة وكمال العقل .

وثالثها : سن الكهولة ، وهو من الأربعين إلى الستين ، وهذه المرتبة تسرع الإنسان إلى النقص ، لكنه يكون النقص خفيا لا يظهر .

ورابعها : سن الشيخوخة والانحطاط ، من الستين إلى آخر العمر ، وفيها يتبين النقص ، ويكون الهرم والخرف .

قال علي : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقيل : ثمانون . وقيل : تسعون سنة ، قاله قتادة . ومثل هذه الآية قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } . وعن السدي قال : هو الخرف ، وعن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر . وعن طاووس العالم : لا يخرف ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه و آله وسلم في الصحيح وغيره ، أنه كان يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر{[1057]} .

ثم علل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله : { لِكَيْ لاَ } ، اللام لام التعليل ، و " كي " حرف مصدر ونصب ، و " لا " نافية ، وقيل : اللام هنا للصيرورة والعاقبة . { يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ } ، كان حصل له { شَيْئًا } منه ، لا كثيرا ولا قليلا ، أو شيئا من المعلومات ، إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم ، وقيل : المراد بالعلم هنا العقل ، وقيل : المراد : لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك ، وقيل : لكي يصير كالصبي الذي لا عقل له .

وقال الزجاج : المعنى : وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا ، فيصير بعد أن كان عالما جاهلا ؛ ليريكم الله من قدرته ، أنه كما قدر على إماتته وإحيائه قادر على نقله من العلم إلى الجهل ، وأنه قادر على إحيائه بعد إماتته ، فيكون ذلك دليلا على صحة البعث بعد الموت .

{ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ } ، بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل ، أو إلى الإفناء من الإحياء . { قَدِيرٌ } على تبديل ما يشاء من الأشياء ، وعلى ما يريد .


[1057]:مسلم 2706 – البخاري 1350.