السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ} (70)

ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ، ونبههم على عظيم غفلتهم ، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك ، فقال : { والله } ، أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، { خلقكم } ، أي : أوجدكم من العدم ، وأخرجكم إلى الوجود ، ولم تكونوا شيئاً . { ثم يتوفاكم } ، أي : عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان ، فلا يقدر الصغير أن يؤخر ، ولا الكبير على أن يقدّم ، فمنكم من يموت على حال قوّته . { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، أي : أخسه من الهرم والخرف . قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب : سنّ الطفولية والنمو ، وهو : أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، وهو : غاية سنّ الشباب ، وبلوغ الأشدّ ، ثم المرتبة الثانية : سنّ الوقوف ، وهو : من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة ، وهو : غاية القوّة ، وكمال العقل . والمرتبة الثالثة : سنّ الكهولة ، وهو : من الأربعين إلى الستين ، وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص ، لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر ، ثم المرتبة الرابعة : سنّ الشيخوخة والانحطاط : من الستين إلى آخر العمر ، خمسة وستون سنة يتبين النقص ، ويكون الهرم والخرف .

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر : خمسة وسبعون سنة ، وقيل ثمانون سنة . وقال قتادة : تسعون سنة . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز ، والهرم ، والبخل ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وفتنة المحيا والممات » . وفي رواية عنه كان يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل ، والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة المحيا والممات » . { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } ، أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة ، والعقل وسوء الفهم .

تنبيه : هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه عامّ ، والقول الثاني : أنه مختص ، إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى ، ولا يقال في حقه : إنه ردّ إلى أرذل العمر . قال الرازي : والدليل عليه قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين 5 إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين . وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة . وقال في قوله تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } : هم الذين قرؤوا القرآن . وقال ابن عباس : قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين } ، يريد الكافرين ، ثم استثنى المؤمنين فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، وهذا يؤيد ما مرّ . { إن الله عليم } بمقادير أعمارهم ، { قدير } يميت الشاب النشيط ، ويبقي الهرم الفاني ، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم ، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون ، لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ .