ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان ، أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : { والله خلقكم } ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، إلى أخسه وأحقره . عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة . وعن قتادة تسعون سنة . وقال السدي : هو حالة الخرف ، دليله قوله : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } ، أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر ، وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً ، أي : لا يعلم زيادة علم على علمه . وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين ، والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ، ونظير الآية قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }[ التين : 5 ، 6 ] .
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها : سن النشوء ، وثانيها : سن الوقوف ، وهو سن الشباب ، وثالثها : الانحطاط الخفي اليسير ، وهو : سن الكهولة ، ورابعها : سن الانحطاط الظاهر ، وهو : سن الشيخوخة . وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي : أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته ، فلا يزال في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة ، حتى يتصلب ويظهر العظم ، والغضروف ، والعصب ، والوتر ، والرباط ، وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل ، فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ، وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء ، وهو : سن النشوء ، وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل ، وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية ، إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر ، وهو : سن الوقوف والشباب وغايته ، وحينئذ يظهر النقصان قليلاً إلى ستين سنة ، وهي : سن الكهولة ، ثم يظهر جداً إلى تمام مائة وعشرين سنة . قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف ؛ لأن رطوبات البدن في حال كونه منياً ودماً كانت كثيرة ؛ ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات ، حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، فعندما تولدت الأعضاء ، وكمل البدن ، وقلت الرطوبات ، وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك ، فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظماً وعصباً ، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم ، لا لأجل ما قالوه . وبوجه آخر : الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة ، إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت . والأول باطل ؛ لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن ، وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلاً . وأما الثاني : ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة ، فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبداً ، وليس كذلك . وبوجه ثالث : هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية ، فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان ؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء ، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية ، فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً ؛ لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي ، فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ؛ لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية ، وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ، فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى ، فتنطفىء الحرارة أيضاً ويحصل الموت . وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها ، فلم لا يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها ؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل . قال الإمام فخر الدين الرازي راداً عليهم : إن القوة الغاذية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة ، وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة ، أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل ، وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن ، فيعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله عليم قدير } ، يعلم مقادير المصالح والمفاسد ، ويقدر على تحصيلها كما يريد . وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة . قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ؛ لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ، ولكن إنكار القوى والطبائع أيضاً بعيد عن الإنصاف . والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادىء والعلل ، إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم : أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر ، فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل ، فيحل الأجل بتقدير العليم القدير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.