غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ} (70)

ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان ، أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : { والله خلقكم } ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، إلى أخسه وأحقره . عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة . وعن قتادة تسعون سنة . وقال السدي : هو حالة الخرف ، دليله قوله : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } ، أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر ، وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً ، أي : لا يعلم زيادة علم على علمه . وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين ، والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ، ونظير الآية قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }[ التين : 5 ، 6 ] .

واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها : سن النشوء ، وثانيها : سن الوقوف ، وهو سن الشباب ، وثالثها : الانحطاط الخفي اليسير ، وهو : سن الكهولة ، ورابعها : سن الانحطاط الظاهر ، وهو : سن الشيخوخة . وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي : أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته ، فلا يزال في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة ، حتى يتصلب ويظهر العظم ، والغضروف ، والعصب ، والوتر ، والرباط ، وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل ، فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ، وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء ، وهو : سن النشوء ، وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل ، وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية ، إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر ، وهو : سن الوقوف والشباب وغايته ، وحينئذ يظهر النقصان قليلاً إلى ستين سنة ، وهي : سن الكهولة ، ثم يظهر جداً إلى تمام مائة وعشرين سنة . قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف ؛ لأن رطوبات البدن في حال كونه منياً ودماً كانت كثيرة ؛ ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات ، حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، فعندما تولدت الأعضاء ، وكمل البدن ، وقلت الرطوبات ، وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك ، فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظماً وعصباً ، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم ، لا لأجل ما قالوه . وبوجه آخر : الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة ، إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت . والأول باطل ؛ لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن ، وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلاً . وأما الثاني : ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة ، فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبداً ، وليس كذلك . وبوجه ثالث : هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية ، فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان ؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء ، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية ، فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً ؛ لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي ، فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ؛ لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية ، وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ، فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى ، فتنطفىء الحرارة أيضاً ويحصل الموت . وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها ، فلم لا يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها ؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل . قال الإمام فخر الدين الرازي راداً عليهم : إن القوة الغاذية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة ، وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة ، أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل ، وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن ، فيعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله عليم قدير } ، يعلم مقادير المصالح والمفاسد ، ويقدر على تحصيلها كما يريد . وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة . قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ؛ لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ، ولكن إنكار القوى والطبائع أيضاً بعيد عن الإنصاف . والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادىء والعلل ، إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم : أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر ، فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل ، فيحل الأجل بتقدير العليم القدير .

/خ70