قوله تعالى : { وإذ آتينا موسى الكتاب } . يعني التوراة .
قوله تعالى : { والفرقان } . قال مجاهد : هو التوراة أيضاً ذكرها باسمين ، وقال الكسائي : الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة ، يعني : الكتاب الفرقان . أي المفرق بين الحلال والحرام ، وقال يمان بن ريان : أراد بالفرقان انفراق البحر . كما قال ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم ) .
خامساً - نعمة إيتاء موسى التوراة لهدايتهم :
ثم ذكرهم - سبحانه – بنعمة خامسة فيها صلاح أمورهم ، وانتظام شئونهم ألا وهي إعطاء نبيهم موسى - عليه السلام - التوراة ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب . . . } .
معنى الآية الكريمة : اذكروا بابني إسرائيل نعمة إعطاء نبيكم موسى - عليه السلام - التوراة ، وفيها الشرائع والأحكام ، لكي تهتدوا بها إلى طريق القلاح والرشاد في الدنيا ، وإلى الفوز بالسعادة في الآخرة .
فالمراد بالكتاب التوراة التي أوتيها موسى - عليه السلام - فأل للعهد .
والفرقان - بضم الفاء - مأخوذ من الفرق وهو الفصل ، استعير لتمييز الحق من الباطل ؛ وقد يطلق لفظ الفرقان على الكتاب السماوي المنزل من عند الله كما في قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } كما يطلق على المعجزة كما في قوله تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } أي المعجزات لأن هارون لم يؤت وحياً .
والمراد بالفرقان هنا التوراة نفسها ويكون المراد بالعطف التفسير .
قال ابن جرير ما ملخصه : ( وأولى الأقوال بتأويل الآية ما روى عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد ، من أن الفرقان الذي ذكر الله تعالى أنه آتاه موسى في هذا الموضع ، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل وهو نعت للتوراة وصفة لها ، فيكون تأويل الآية حينئذ : وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح ، وفرقنا بها بين الحق والباطل . فيكون الكتاب نعتاً للتوراة ، أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة ثم عطف عليه بالفرقان ، إذ كان من نعتها ) .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بيان لثمرة المنة والنعمة بإيتاء التوراة ؛ لأن إتيان موسى الكتاب والفرقان ، المقصود منه هدايتهم ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
ولكن ماذا كان موقف بني إسرائيل من التوراة التي أنزلها الله لهدايتهم وسعادتهم ؟ كان موقفهم منها - كما هي عادتهم - موقف الجاحد لنعم الله فقد امتدت أيديهم الأثيمة إليها فحرفوها كما شاءت لهم أهواؤهم وشهواتهم ولقد وبخهم القرآن الكريم على ذلك ، وشبههم في تركهم العمل بها وعدم انتفاعهم بما فيها ، بالحمار الذي يحمل كتب العلم ولكنه لا يدري ما فيها .
فقال تعالى في سورة الجمعة : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } حملوا التوراة : أي علموها وكلفوا العمل بها ، ثم لم يحملوها : أي : لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما اشتملت عليه . والأسفار : جمع سفر وهو الكتاب الكبير ، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ .
ومعنى الآية الكريمة : مثل هؤلاء اليهود الذين علموا التوراة وكلفوا العمل بأحكامها ولكنهم لم يعملوا بها ، مثلهم كمثل الحمار يحمل الكتب ولكنه لا يدري ما فيها ، ولا يناله من حملها إلا التعب ، بئس مثلا مثل هؤلاء اليهود الذين كذبوا بآيات الله التي تشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذر صفاته التي لا تنطبق إلا عليه ، وقد جرت سنة الله - تعالى - في خلقه ألا يهدي إلى طريق الحق أمثال هؤلاء القوم الظالمين ، لأنهم استحيوا العمى على الهدى ، وباعوا دينهم بدنياهم .
قال صاحب الكشاف : " شبه الله - تعالى - اليهود ي أنهم حملة التوراة وقراؤها ، وحفاظ ما فيها ثم إنهم غير عاملين بها ، ولا منتفعين بآياتها وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ، ولم يؤمنوا به - شبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، أي : كتباً من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل ، فهذا مثله وبئس المثل " .
وقال الإِمام ابن القيم : " شبه الله - تعالى - من حمله كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ، ثم خالف ذلك ، ولم يحمله إلا على ظهر قلب ، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ، ولا تحكيم لنصوصه ، شبهه - بحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها ، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا ، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره ، فهذا المثل ، وإن كان قد ضرب لليهود ، فهو متناول من حيث المعنى ، لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ، ولم يرعه حق رعايته " .
ومن هذا نرى أن اليهود قد أنعم الله عليهم بالتوراة ، وجعلها نوراً وهدى لهم ، ولكنهم تركوها ، ولم يعملوا بما فيها ، واستحبوا العمى على الهدى ، { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
وقوله : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني : التوراة { وَالْفُرْقَانَ } وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وكان ذلك - أيضا - بعد خروجهم من البحر ، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف . ولقوله{[1740]} تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 43 ] .
وقيل : الواو زائدة ، والمعنى : ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب ، وقيل : عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا ، كما في قول الشاعر :
وقدمت الأديم لراهشيه *** فألفى قولها كذبًا ومينا
ألا حبذا هند وأرض بها هند *** وهند أتى من دونها النأي والبعد .
فالكذب هو المين ، والنأي : هو البعد . وقال عنترة :
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعني بقوله : وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان . ويعني بالكتاب : التوراة ، وبالفرقان : الفصل بين الحقّ والباطل . كما :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ والفُرْقانَ قال : فرق به بين الحقّ والباطل .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقانَ قال : الكتاب : هو الفرقان ، فرقان بين الحق والباطل .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وحدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقان قال : الكتاب : هو الفرقان ، فرق بين الحقّ والباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وقال ابن عباس : الفرقان : جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته ، يعني ابن زيد ، عن قول الله عز وجل : وَإذْ آتَيْنَا مُوسى الكتابَ والفُرْقانَ فقال : أما الفرقان الذي قال الله جل وعز : يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ فذلك يوم بدر ، يوم فرق الله بين الحق والباطل ، والقضاءُ الذي فرق به بين الحق والباطل . قال : فكذلك أعطى الله موسى الفرقان ، فرق الله بينهم ، وسلمه الله وأنجاه ، فرق بينهم بالنصر ، فكما جعل الله ذلك بين محمد والمشركين ، فكذلك جعله بين موسى وفرعون .
قال أبو جعفر : وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما رُوي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد ، من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرق به بين الحقّ والباطل ، وهو نعت للتوراة وصفة لها . فيكون تأويل الآية حينئذ : وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح ، وفرقنا بها بين الحقّ والباطل . فيكون الكتاب نعتا للتوراة أقيم مقامها استغناءً به عن ذكر التوراة ، ثم عطف عليه بالفرقان ، إذ كان من نعتها . وقد بينا معنى الكتاب فيما مضى من كتابنا هذا ، وأنه بمعنى المكتوب . وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية وإن كان محتملاً غيره من التأويل ، لأن الذي قبله ذكر الكتاب ، وأن معنى الفرقان الفصل ، وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، فإلحاقه إذ كان كذلك بصفة ما وليه أَوْلى من إلحاقه بصفة ما بعد منه .
وأما تأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ فنظير تأويل قوله تعالى : لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه لتهتدوا . وكأنه قال : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحقّ والباطل لتهتدوا بها وتتبعوا الحقّ الذي فيها لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها .
{ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا منزلا وحجة تفرق بين الحق والباطل ، وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى ، أو بين الكفر والأيمان . وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى : { يوم الفرقان } يريد به يوم بدر .
{ لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات .
هذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى تمام النعمة وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت كتاباً فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع .
والمراد من { الكتاب } التوراة التي أوتيها موسى فالتعريف للعهد ، ويعتبر معها ما ألحق بها على نحو ما قدمناه في قوله تعالى : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ] .
والفرقان مصدر بوزن فعلان مشتق من الفرق وهو الفصل استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي للتفرقة فقد يطلق على كتاب الشريعة وعلى المعجزة وعلى نصر الحق على الباطل وعلى الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } [ الأنبياء : 48 ] فلعله أراد المعجزات لأن هارون لم يؤت وحياً وقال : { يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] يعني يوم النصر يوم بدر وقال : { وأنزل الفرقان } [ آل عمران : 4 ] عطفاً على { نزل عليك الكتاب بالحق وأنزل التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ] الآية .
والظاهر أن المراد به هنا المعجزة أو الحجة لئلا يلزم عطف الصفة على موصوفها إن أريد بالفرقان الكتاب الفارق بين الحق والباطل والصفة لا يجوز أن تتبع موصوفها بالعطف ومن نظر ذلك بقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
فقد سها لأن ذلك من عطف بعض الصفات على بعض لا من عطف الصفة على الموصوف كما نبه عليه أبو حيان .
وقوله : { لعلكم تهتدون } هو محل المنة لأن إتيان الشريعة لو لم يكن لاهتدائهم وكان قاصراً على عمل موسى به لم يكن فيه نعمة عليهم . والقول في { لعلكم تهتدون } كالقول في { لعلكم تشكرون } [ البقرة : 51 ] السابق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ": واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب. "والفرقان": ويعني بالكتاب: التوراة، وبالفرقان: الفصل بين الحقّ والباطل... عن مجاهد...قال: الكتاب: هو الفرقان؛ فرقان بين الحق والباطل... وقال ابن عباس: الفرقان: جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
وقال ابن زيد في ذلك:... أما الفرقان الذي قال الله جل وعز: "يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ "فذلك يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل، والقضاءُ الذي فرق به بين الحق والباطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان، فرق الله بينهم، وسلمه الله وأنجاه، فرق بينهم بالنصر، فكما جعل الله ذلك بين محمد والمشركين، فكذلك جعله بين موسى وفرعون.
وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما رُوي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرق به بين الحقّ والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح، وفرقنا بها بين الحقّ والباطل. فيكون الكتاب نعتا للتوراة أقيم مقامها استغناءً به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه بالفرقان، إذ كان من نعتها. وقد بينا معنى الكتاب فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه بمعنى المكتوب. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية وإن كان محتملاً غيره من التأويل، لأن الذي قبله ذكر الكتاب، وأن معنى الفرقان الفصل، وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا، فإلحاقه إذ كان كذلك بصفة ما ولِيَه أَوْلى من إلحاقه بصفة ما بعُد منه.
"لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ "فنظير تأويل قوله تعالى: "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ" ومعناه لتهتدوا. وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحقّ والباطل لتهتدوا بها وتتبعوا الحقّ الذي فيها لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الكتاب والفرقان}: يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً، وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل: يعني التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. ونحوه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً} [الأنبياء: 48] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكراً.
أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان؛ من العصا واليد وغيرهما من الآيات.
أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان في ذلك دليل على سوء طباعهم وعكس مزاجهم وأنهم لا يحفظون عهداً ولا يستقيمون على نهج ذكرهم بنعمة الكتاب الذي من شأنه الضبط في جميع الأحوال بالرجوع إليه عند الضلال فقال: وقال الحرالي: لما ذكر تعالى أمر موسى عليه السلام وهو خاص أمرهم فصل لهم أمر ما جاء به موسى وما كان منهم فيما جاء به -انتهى. فقال {وإذ اتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي الكامل في نفسه الجامع لكم على طريق الحق. ولما كان الكتاب مع كونه جامعاً لما أريد منه فارقاً بين الملبسات، وصفه بقوله {والفرقان} أي المبين للأشياء على ما هي عليه من غير أن يدع في شيء لبساً. قال الحرالي: فقررهم على أمرين من الكتاب الذي فيه أحكام الأعمال، والفرقان الذي فيه أمر العلم. وهما مِلاك حال إقامة الدين بالعلم والعمل؛ والفرقان... وجاء فيه بكلمة لعل، إشعاراً بالإبهام في أمرهم وتفرقتهم بين مثبت لحكم الكتاب عامل به عالم بطية الفرقان خبير به، وبين تارك لحكم الكتاب غافل عن علم الفرقان- انتهى؛ فقال تعالى {لعلكم تهتدون} أي ليكون حالكم حال من ترجى هدايته فيغلب حلمه جهله وعقله شهوته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قفى على هذا بذكر إيتائهم الكتاب وهو المنة الكبرى فقال {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون}.
ومعنى قوله {لعلكم تشكرون} {لعلكم تهتدون} أي ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر ويعدكم بهذه الأحكام والشرائع للاهتداء، ويهيئكم للاسترشاد، فلا تقعوا في وثنية أخرى. وإن من كمال الاستعداد للهداية بفهم الكتاب، أن يعرفوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو هدى ونور يرجعهم إلى الأصل الذي تفرقوا عنه واختلفوا فيه، وكذلك اهتدى به منهم المستبصرون، وجاحده الرؤساء المستكبرون، والمقلدون الذين لا يعقلون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم، مع الإشارة إلى تمام النعمة، وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم، لسعة الشريعة المنزلة لهم، حتى كانت كتاباً، فكانوا به أهل كتاب، أي أهل علم تشريع.
والفرقان مصدر بوزن فعلان مشتق من الفرق وهو الفصل استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي للتفرقة فقد يطلق على كتاب الشريعة وعلى المعجزة وعلى نصر الحق على الباطل وعلى الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفى عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية؛ لأنهم ببعث موسى عليه السلام إليهم، قد صاروا أهل كتاب، ولذا ذكرهم الله تعالى بنعمة النبوة فيهم فقال تعالى: {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان}، يذكرهم الله تعالى بنعمه عليه بأن آتاه سبحانه وتعالى الكتاب، وهو التوراة، وفيها أحكام الله تعالى، وأنهم بها يخرجون من حكم الطاغوت الظالم الذي يسيطر عليه هوى فرعون وأوهامه والذي كان لا يرعى في عذابكم عهدا ولا ذمة، ولا خلقا، ولا مراعاة، تخرجون من هذا إلى حكم الله تعالى بكتاب تتقيدون بأحكامه حكاما ومحكومين، فلا يفرط عليكم حالكم ولا يطغى كما كان الشأن في فرعون لعنه الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
التركيز على الجانب المعنوي في الرسالات:
نستوحي من هذه الآية أنَّ على الدعاة أن يركزوا على طبيعة النعم التي أنعم بها اللّه على الإنسان، فلا يقتصروا على النعم الحسية التي يمارس الإنسان من خلالها شهواته ولذّاته ومطامحه الذاتية، بل يثيروا أمامه النعم التي تتصل بفكره وخطواته العملية ومصيره في الدنيا والآخرة، في ما يتصل بقضايا الحقّ والباطل من القيم الروحية والإنسانية الكبرى، التي ترتفع بمستوى الإنسان الروحي والاجتماعي.
وسنجد في الآيات القرآنية المقبلة كثيراً من هذه اللفتات التي تركز على الجانب المعنوي في النعم المعنوية، كما تؤكد الجانب المادي في النعم المادية، ممّا يدخل في طبيعة تكوين الشخصية الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الروحي بالمادي من دون ازدواجية أو انفصال. ولعلّ القيمة في هذا التوجيه التربوي، هي أنه يمنح الإنسان المسلم شعوراً بالغبطة والسعادة أمام الصعوبات والتحدّيات التي تواجهه في مسيرته نحو إقرار شريعة اللّه في الحياة، باعتبار أنها لا تعني شيئاً أمام نعمة اللّه في التشريع المرتكز على أساس الحقّ والعدل في جميع جوانب الحياة المادية والروحية، ويخلّصه من كثير من سلبيات الطريق الصعبة.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
في هذه الآية تذكير لبني إسرائيل بنعمة سابغة تُعد أكبر نعمة بسطها الله لهم وأنعم بها عليهم لما فيها من صلاح الدين والدنيا وقوام أمر الفرد والمجتمع، وهي نعمة إنزال التوراة عليهم لتكون لهم هدى ونورا، تنتظم شمل جماعتهم، ويحتكمون اليها في منازعاتهم، ويستمدون منها الرشد والصلاح فيما يتعلق بالمعاش والمعاد، وحقيق أن تكون التوراة أكبر النعم التي أوتيها بنو إسرائيل، إذ لا يعرف في الكتب السماوية مما نزل قبلها أو بعدها ما هو أجمع منها حكما، وأوسع منها علما، وأعم منها نورا، إلا القرآن الذي أنزل الله هدى وذكرا للعالمين، فهيمن على كل ما أُنزل قبله،
والامتنان بإنزال الكتاب على موسى لهداية قومه ذُكر هنا في معرض تعداد النعم المختلفة التي أسبغها الله عليهم لأنه حلقة من حلقات سلسلتها الطويلة، ولم يختلف المفسرون في كون المقصود بالكتاب التوراة الهادية الى أمر الله، والتي تعاقب عدد من النبيين على تجديد إبلاغ رسالتها، والحكم بمضمونها، كما قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ}، وهي التي جعلتها بنو إسرائيل أعظم مفاخرهم التي يتطاولون بها على سائر الشعوب والأمم.