البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (53)

الفرقان : مصدر فرق ، وتقدّم الكلام في فرق .

{ وإذ آتينا موسى الكتاب } : هو التوراة بإجماع المفسرين .

{ والفرقان } : هو التوراة ، ومعناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل ، ويكون من عطف الصفات ، لأن الكتاب في الحقيقة معناه : المكتوب ، قاله الزجاج ، واختاره الزمخشري ، وبدأ بذكره ابن عطية قال : كرر المعنى لاختلاف اللفظ ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل ، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك ، أو الواو مقحمة ، أي زائدة ، وهو نعت للكتاب ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام***

وليث الكتيبة في المزدحم

قاله الكسائي ، وهو ضعيف ، وإنما قوله ، وابن الهمام ، وليث : من باب عطف الصفات بعضها على بعض .

ولذلك شرط ، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني ، أو النصر ، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله ابن عباس ، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه السلام من العصا واليد وغير ذلك ، لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو الفرق بين الحق والباطل ، قاله أبو العالية ومجاهد ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان ، قاله ابن بحر وابن زيد ، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى :

{ يجعل لكم فرقاً } أي فرجاً ومخرجاً .

وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن .

والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به ، حكاه ابن الأنباري ، أو القرآن على حذف مفعول ، التقدير : ومحمداً الفرقان ، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب ، وقالوا : هو كقول الشاعر :

وزججن الحواجب والعيونا***

التقدير : وكحلن العيون .

ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة ، لأنه لا دليل على هذا المحذوف ، ويصير نظير : أطعمت زيداً خبزاً ولحماً ، ويكون : اللحم أطعمته غير زيد ، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق ، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك ، وليس مثل ما مثلوا به من : وزججن الحواجب والعيون ، لما هو مذكور في النحو .

وقد جاء : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو انفراق البحر ، قاله يمان وقطرب ، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله : { إذ فرقنا } ، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان ، ولا يليق إلا بالكتاب .

وأجيب بأنه ، وإن سبق ذكر الانفلاق ، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به ، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام ، وذلك هو الهداية ، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز ، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم ، ونعمة النجاة من أعدائهم .

فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا .

.

{ لعلكم تهتدون } : ترجية لهدايتهم ، وقد تقدم الكلام في لعل .

وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا ، وفي قوله قيل : { لعلكم تشكرون } ، أنه توقع ، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوباً ، كانت للترجي ، فإن كان محذوراً ، كانت للتوقع ، كقولك : لعل العدو يقدم .

والشكر والهداية من المحبوبات ، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي .

قال القشيري : فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم ، يفرقون به بين الحق والباطل : استفت قلبك ، اتقوا فراسة المؤمن .

المؤمن ينظر بنور الله { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاً } ، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان ، انتهى كلامه .

وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان ، لأن الكتاب به تحصل الهداية { إنا أنزلنا التوارة فيها هدى ونور } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى } { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور }

/خ53